
يعني: بالأموال في الآخرة على وجه التقديم، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
قوله تعالى: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، يعني: سورة براءة. أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ، يعني: يأمرهم فيها أن صدقوا بقلوبكم كما أقررتم بلسانكم، وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ، يعني: استأذنك في القعود أهل السعة والغنى من المنافقين. وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ، يعني: دعنا وائذن لنا نتخلف ونقعد مع القاعدين الذين تخلفوا في المدينة عن القاعدين، يعني: دعنا وائذن لنا نتخلف ونقعد مع القاعدين الذين تخلفوا في المدينة عن الجهاد. ورَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، يعني: بأن يجالسوا النساء بالمدينة. يقال:
الخوالف هم خساس الناس ودناتهم، يقال: خالف أهله، إذا كان دونهم. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ التوحيد، ويقال: لا يعلمون ثواب الخروج إلى الجهاد.
ثم قال عز وجل: لكِنِ الرَّسُولُ، يعني: إن لم يجاهد المنافقون، فالله تعالى غني عنهم ويجاهد الرسول. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، إن لم تخرجوا أنتم. وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، يعني: الحسنات، ويقال: زوجات حسان في الجنة. والخيرة:
الزوجة، والخيرة: الثواب. وقال القتبي والأخفش: الخيرات واحدها خيرة: وهن الفواضل.
وروى مسروق، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: في قوله: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ قال: «لكل مسلم خبرة، ولكل خيرةٌ خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عليها في كل يوم من الله تعالى تحفة وكرامة وهدية، لم يكن قبل ذلك لا طمحات ولا مرحات ولا بخرات ولا دفرات وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: ٢٢] الآية. قال أهل اللغة: طمحات يعني: ناكسات رؤوسهن، مرحات: خفيفات الرؤوس، بخرات: منتن ريح الفم، ودفرات: منتن ريح الإبط. ثم قال:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، يعني: الناجون في الآخرة.
قوله تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، يعني: النجاة الوافرة والثواب الجزيل.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)

قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ، قرأ ابن عباس الْمُعَذِّرُونَ بالتخفيف وهكذا قرأ الحضرمي، وقراءة العامة الْمُعَذِّرُونَ بالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف يعني: الذين أعذروا وجاءوا بالعذر، ومن قرأ بالتشديد يعني: المعتذرين الذين إلا أن التاء أدغمت في الذال لقرب المخرجين: ويعني: المعذرين الذين يعتذرون، كان لهم عذر أو لم يكن لهم، وهذا قول الزجاج.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ بالتخفيف وهم المخلصون، أصحاب العذر وقال: لعن الله المُعْذِّرِين بالتشديد، لأن المعذَّرين هم الذين يعتلُّون بلا علة، ويعتذرون بلا عذر. لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في التخلف، وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
فمن قرأ بالتشديد يكون هذا نعتاً لهم، ومن قرأ بالتخفيف يكون صنفين، ويكون معناه: وجاء الذين لهم العذر، وسألوا العذر، وقعد الذين لا عذر لهم وهم الذين كذبوا الله وَرَسُولَهُ في السر. ثم بيّن أمر الفريقين فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، وهم الذين تخلفوا بغير عذر.
وبيّن حال الذين قعدوا بالعذر، فقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ، يعني: على الزّمن والشيخ الكبير، وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ في الجهاد حَرَجٌ، يعني: لا إثم عليهم. إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، يعني: إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية. مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، يعني: ليس على الموحدين المطيعين من حرج، إذا تخلفوا بالعذر. وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم بتخلفهم، رَحِيمٌ بهم.
قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ، يعني: ولا حرج على الذين. إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ على الجهاد. روى أسباط، عن السدي أنه قال: أقبل رجلان من الأنصار أحدهما عبد الله بن الأزرق، والآخر أبو ليلى، فسألاه أن يحملهما، قُلْتَ لاَ أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ. فبكيا حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا ينفقون وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: أتاه سبعة نفر من أصحابه، سالم بن عمير، وحزن بن عمرو، وعبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، وسليمان بن صخر، وعتبة بن زيد، وعمرو بن عتبة، وعبد الله بن عمرو المزني يستحملونه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ». تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، يعني: تسيل مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ في الخروج إلى الجهاد.