
ثم نساء، وهو جمع خالف، وقال قتادة «الخالفون» النساء، وهذا مردود، وقال ابن عباس: هم الرجال، وقال الطبري: يحتمل قوله مَعَ الْخالِفِينَ أن يريد مع الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذا من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين» وهو مقصور من الخالفين، كما قال: عردا وبردا يريد عاردا وباردا، وكما قال الآخر: [الرجز] مثل النقا لبده برد الظلال يريد الظلال.
قوله عز وجل:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧)
هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل عليه السلام، فجذبه بثوبه وتلا عليه، وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصل عليه، وتظاهرت الروايات أن رسول الله ﷺ صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك، وفي كتاب الجنائز من البخاري من حديث جابر، قال: أتى رسول الله ﷺ عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج ووضعه على ركبته ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، وروي في ذلك أن عبد الله بن أبي بعث إلى رسول الله ﷺ في مرضه ورغب إليه أن يستغفر له وأن يصلي عليه.
وروي أن ابنه عبد الله بن عبد الله جاء رسول الله ﷺ بعد موت أبيه فرغب في ذلك وفي أن يكسوه قميصه الذي يلي بدنه، ففعل، فلما جاء رسول الله ﷺ ليصلي عليه قام إليه عمر رضي الله عنه، فقال يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟
وجعل يعدد أفعال عبد الله، فقال له رسول الله ﷺ «أخر عني يا عمر، فإني خيرت، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت»، وفي حديث آخر «إن قميصي لا يغني عنه من الله

شيئا، وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي»، كذا في بعض الروايات، يريد من منافقي العرب، والصحيح أنه قال رجال من قومه، فسكت عمر وصلى رسول الله ﷺ على عبد الله، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك، وصلى عليه رسول الله ﷺ لموضع إظهاره الإيمان، ومحال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره وبعد هذا والله أعلم، عين له من لا يصلي عليه.
ووقع في معاني أبي إسحاق وفي بعض كتب التفسير، فأسلم وتاب بهذه الفعلة من رسول الله ﷺ والرغبة من عبد الله ألف رجل من الخزرج.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، قاله من لم يعرف عدة الأنصار، وقوله تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ الآية، تقدم تفسير مثل هذه الآية، والخطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، إذ هو بإجماع ممن لا تفتنه زخارف الدنيا.
ويحتمل أن يكون معنى الآية ولا تعجبك أيها الإنسان، والمراد الجنس، ووجه تكريرها تأكيد هذا المعنى وإيضاحه، لأن الناس كانوا يفتنون بصلاح حال المنافقين في دنياهم، وقوله وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ الآية، العامل في إِذا اسْتَأْذَنَكَ، و «السورة» المشار إليها هي براءة فيما قال بعضهم، ويحتمل أن يكون إلى كل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول، وسورة القرآن أجمع على ترك همزها في الاستعمال واختلف هل أصلها الهمز أم لا فقيل أصلها الهمز فهي من أسأر إذا بقيت له قطعة من الشيء، فالسورة قطعة من القرآن، وقيل أصلها أن لا تهمز فهي كسورة البناء وهي ما يبنى منه شيئا بعد شيء، فهي الرتبة بعد الرتبة، ومن هذا قول النابغة: [الطويل]
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة | ترى كلّ ملك دونها يتذبذب |
وقوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ الآية، تقريع وإظهار شنعة كما يقال على وجه التعيير رضيت يا فلان، والْخَوالِفِ النساء جمع خالفة، هذا قول جمهور المفسرين، وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد أخسة الناس وأخالفهم، وقال النضر بن شميل في كتاب النقاش: الْخَوالِفِ من لا خير فيه، وقالت فرقة الْخَوالِفِ جمع خالف فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، وَطُبِعَ في هذه الآية مستعار، ولما كان الطبع على الصوان والكتاب مانعا منه وحفاظا عليه شبه القلب الذي قد غشيه الكفر والضلال حتى منع الإيمان والهدى منه بالصوان المطبوع عليه، ومن هذا استعارة القفل والكنان للقلب، ولا يَفْقَهُونَ معناه لا يفهمون. صفحة رقم 68