آيات من القرآن الكريم

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ نَوْعٍ ثَالِثٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ سَعْيُهُمْ فِي إِبْطَالِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدُّهُمْ فِي إِخْفَاءِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ شَرْعِهِ وَقُوَّةِ دِينِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ النُّورِ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَهِيَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا. أَحَدُهَا: الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، فَحَيْثُ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الصِّدْقِ، فَوَجَبَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقًا، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الصِّدْقِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي نُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ مَا تَعَلَّمَ وَمَا طَالَعَ وَمَا اسْتَفَادَ وَمَا نَظَرَ فِي كِتَابٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ/ حَاصِلَ شَرِيعَتِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ وَصَرْفُ النَّفْسِ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبُ فِي سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ. وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ شَرْعَهُ كَانَ خَالِيًا عَنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ مَا لَا يَلِيقُ باللَّه، وَلَيْسَ فِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ مَلَكَ الْبِلَادَ الْعَظِيمَةَ، وَمَا غَيَّرَ طَرِيقَتَهُ فِي اسْتِحْقَارِ الدُّنْيَا، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ طَلَبَ الدُّنْيَا لَمَا بَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ دَلَائِلُ نَيِّرَةٌ وَبَرَاهِينُ قَاهِرَةٌ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بِكَلِمَاتِهِمُ الرَّكِيكَةِ وَشُبُهَاتِهِمُ السَّخِيفَةِ، وَأَنْوَاعِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، أَرَادُوا إِبْطَالَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، فَكَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى مَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَ نُورِ الشَّمْسِ بِسَبَبِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا، وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وعمل ضائع، فكذا هاهنا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزِيدَ النُّصْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَإِعْلَاءَ الدَّرَجَةِ وَكَمَالَ الرُّتْبَةِ فَقَالَ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَبَى اللَّهُ إِلَّا كَذَا، وَلَا يُقَالُ كَرِهْتُ أَوْ أَبْغَضْتُ إِلَّا زَيْدًا؟
قُلْنَا: أَجْرَى (أَبَى) مَجْرَى لَمْ يُرِدْ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ إِلَّا ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْإِبَاءَ يُفِيدُ زِيَادَةَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَهِيَ الْمَنْعُ وَالِامْتِنَاعُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ أَرَادُوا ظُلْمَنَا أَبَيْنَا»
فَامْتُدِحَ بِذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْتَدَحَ بِأَنَّهُ يَكْرَهُ الظُّلْمَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَبَى الضَّيْمَ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا سَمَّى الدَّلَائِلَ بِالنُّورِ لِأَنَّ النُّورَ يَهْدِي إِلَى الصَّوَابِ فَكَذَلِكَ الدَّلَائِلُ تَهْدِي إِلَى الصواب في الأديان.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٣]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْأَعْدَاءِ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِبْطَالَ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْبَى ذَلِكَ الْإِبْطَالَ وَأَنَّهُ يُتِمُّ أَمْرَهُ، بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْإِتْمَامِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ: أَوَّلُهَا: كَثْرَةُ الدَّلَائِلِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَثَانِيهَا: كَوْنُ دِينِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى أُمُورٍ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالصَّوَابِ وَالصَّلَاحِ وَمُطَابَقَةِ الْحِكْمَةِ وَمُوَافَقَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَدِينِ الْحَقِّ وَثَالِثُهَا: صَيْرُورَةُ دِينِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ غَالِبًا عَلَيْهَا غَالِبًا لِأَضْدَادِهَا قَاهِرًا لِمُنْكِرِيهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكَثْرَةِ وَالْوُفُورِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْغَلَبَةِ

صفحة رقم 32
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية