
٤- ولا يدينون دين الحق، نعم فهذا الذي يسيرون عليه ليس دين الله الحق الكامل، وإنما لعبت الأهواء والأغراض والتحريف والتبديل في التوراة والإنجيل وهم لا يدينون بالإسلام وهو الدين الحق الذي لا شك فيه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران آية ١٩].
قاتلوهم حيث اتصفوا بهذه الصفات حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسعة وهم صاغرون، والمعنى: قاتلوهم إن بدر منهم ما يوجب القتال كنقض العهد أو إثارة العدو ومعونته أو الإغارة على أطراف المملكة، كما فعل النصارى في الشام، وإعطاء الجزية دليل الخضوع وسلامة العاقبة على أنهم بهذا يخالطونكم فيرون عدل الإسلام وسماحته، فإن أسلموا فهم منكم وأنتم منهم، وإلا فالجزية مع معاملتهم معاملة حسنة بلا اضطهاد ولا تعذيب، ويسمون أهل الذمة لأن حقوق المساواة والعدل في معاملتهم بمقتضى ذمة الله ورسوله، والمعاهدون هم من بيننا وبينهم عهد محترم من الجانبين، وهناك أحكام في كتب الفقه خاصة بالجزية وأهلها والمعاهدين.
أهل الكتاب لا يعبدون الله حقا [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)

المفردات:
عُزَيْرٌ: هو عزرا الموجود في الكتب التي بأيديهم. يُضاهِؤُنَ:
يشبهون. أَنَّى يُؤْفَكُونَ: كيف يصرفون عن الحق إلى غيره؟ أَحْبارَهُمْ:
جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. وَرُهْبانَهُمْ:
جمع راهب، وأصله مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله- تعالى- على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له، وعمله معه، وأنسه به. أَرْباباً:
جمع رب، وهو الخالق البارئ الذي يحل الحلال ويحرم الحرام.
هذا تقرير لما مر، وتأكيد له ببيان أنهم لا يؤمنون بالله، وعزير هذا هو عزرا الوارد في كتبهم التي أجمعت على أن أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في كتابة كتبهم المقدسة وأنه هو الذي أملاها، إذ ثابت أن التوراة التي كتبت في عهد موسى ضاعت قبل عهد سليمان- عليه السلام- وأن عزيرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي، كتبها بإلهام من الله أو بوحي، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، بل كتب علماء أوروبا الأحرار يشكون في هذا وينفونه كما في دائرة المعارف البريطانية.
والخلاصة أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن الله) ويظهر- والله أعلم- أنه كان إطلاقا في أول الأمر للتكريم ثم صار حقيقة بعد دخول الفلسفة الوثنية الهندية عندهم.

المعنى:
وقالت اليهود- أى: بعضهم-: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقد كان القدماء منهم يقولون به قاصدين معنى التكريم والمحبة، فهو إطلاق مجازى، ثم لما سرت الفلسفة الوثنية صاروا يطلقونه إطلاقا حقيقيا على أن المسيح ابن الله وهو الله، وهم متفقون جميعا على أن الموحد ليس نصرانيا- وقد مر شيء من التحقيق في هذا الموضوع في سورة المائدة بالجزء السادس- ذلك قولهم الكذب وافتراؤهم المحض بألسنتهم من غير دليل ولا حجة يشبهون به قول الذين كفروا من قبلهم سواء كانوا من العرب أو من آبائهم السابقين، ألا لعنة الله عليهم أجمعين.
قاتلهم الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ ويبدلون الحقائق، ويصرفونها عن غير وجهها الطبيعي: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة آية ٧٥]. وقد بين الله حقيقة مضاهاتهم للمشركين ومشابهتهم لهم بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٣١]، والمعنى: اتخذوا اليهود والنصارى علماءهم وعبّادهم أربابا من دون الله يحلون ما يحلون، ويحرمون ما يحرمون. وهذا معنى اتخاذهم أربابا كما ورد في الحديث، فهم تركوا حكم الله واتبعوا حكم هؤلاء، واتخذ النصارى المسيح ابن مريم إلها معبودا مع أنه قال: وقال المسيح يا بنى إسرائيل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون. كما ورد في كتبهم على لسان موسى وعيسى.
وهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهدايته إلى الدين الحق والكتاب المحكم والقرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم ولكن أنى لهم هذا؟! ويأبى الله إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه، والعناية به وإكماله وتمامه في كل شيء، ولو لم يكره الكافرون، ولو كره الكافرون.
ولا غرابة في ذلك فهو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى والدين، والقرآن المبين، وأرسله بدين الحق والكمال والجلال ليظهره على الأديان كلها ولو كره المشركون، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده صلّى الله عليه وسلّم.