آيات من القرآن الكريم

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ

رسله، والانقياد له، والعمل به. والدين: يراد به الطاعة، أو القهر، أو الجزاء «١». والكفر: إنكار وجود الله، أو نسبة الشريك له، أو عدم الإيمان برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أو تكذيب أحد الأنبياء السابقين.
وأرى أن المراد بالدين هنا: النظام الموضوع من الله لعباده في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع.
عقيدة أهل الكتاب (اليهود والنّصارى)
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
الإعراب:
قالَتِ الْيَهُودُ هذا لفظ خرج على العموم، ومعناه الخصوص لأنه ليس كلّ اليهود قالوا ذلك.

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٩٠

صفحة رقم 179

عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ من قرأ بالتّنوين كان عُزَيْرٌ مبتدأ، وابْنُ خبره. ولا تحذف الألف في ابن من الخط، ويكسر التّنوين لالتقاء السّاكنين. ومن قرأه بغير تنوين ففيه ثلاثة أوجه:
الأول- أن يكون عُزَيْرٌ مبتدأ، وابْنُ خبره، وحذف التّنوين لسكونه وسكون الباء من ابْنُ كقراءة من قرأ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص ١١٢/ ١- ٢] فحذف التّنوين لسكونه وسكون اللام.
الثاني- أن يجعل ابْنُ صفة لعزيز، وابن: إذا كان صفة لعلم مضافا إلى علم، حذف التّنوين من الأول، مثل: زيد بن عمرو. ويكون خبر المبتدأ محذوفا تقديره: وقالت اليهود عزيز ابن الله معبودهم، وحذف الخبر للعلم به، كما يحذف المبتدأ للعلم به.
الثالث- أن يكون عُزَيْرٌ ممنوعا من الصّرف للعجمة والتّعريف كإبراهيم وإسماعيل، وهذا أضعف الوجوه لأنه عند المحققين عربي مشتق من (عزّره) : إذا عظّمه ووقّره.
لبلاغة:
يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أراد نور الإسلام، فيه استعارة، شبّه الإسلام بوضوح أدلّته وقطعيّتها وإضاءتها بالشّمس السّاطعة في نورها وضيائها.
المفردات اللغوية:
عُزَيْرٌ هو المعروف عند اليهود باسم (عزرا) المنسوب إلى العازار بن هارون.
يُضاهِؤُنَ يشابهون به في الكفر والشّناعة. قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ إلى غيره مع قيام الدّليل؟ أَحْبارَهُمْ علماء اليهود، جمع حبر.
وَرُهْبانَهُمْ عبّاد اليهود المنقطعين للعبادة، جمع راهب. أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يتّبعونهم في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ. أَرْباباً جمع ربّ: وهو الخالق الذي يختصّ بالتّشريع حلاله وحرامه. وَما أُمِرُوا في التّوراة والإنجيل. إِلَّا لِيَعْبُدُوا أي بأن يعبدوا.
سُبْحانَهُ تنزيها له. يُرِيدُونَ يقصدون إلى الشيء، أو يفعلون فعلا يفضي إلى المراد، وإن لم يقصدوه. نُورَ اللَّهِ هو دين الإسلام وشرعه وبراهينه. بِأَفْواهِهِمْ بأقوالهم فيه.
أَنْ يُتِمَّ يظهر. أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم. لِيُظْهِرَهُ يعليه. عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ جميع الأديان المخالفة له.

صفحة رقم 180

سبب النّزول: نزول الآية (٣٠) :
وَقالَتِ الْيَهُودُ:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سلّام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيزا ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في آية الجزية المتقدمة أن اليهود والنّصارى لا يؤمنون بالله، أوضح ذلك في هذه الآية، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا شرك، ومن جوّز ذلك فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأنهم اتّخذوا علماءهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ في التّحليل والتّحريم، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وهديه.
وهذه الآيات دليل واضح في بيان سبب قتال المؤمنين لأهل الكتاب.
التفسير والبيان:
قالت اليهود أي بعضهم: عزيز ابن الله، وعزيز: كاهن يهودي سكن بابل حوالي سنة ٤٥٧ ق. م، وأسّس المجمع الكبير، وجمع أسفار الكتاب المقدّس، وألّف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا، وهو يعدّ ناشر اليهودية، بعد أن نسيت، فقدّسه اليهود ووصفوه بأنه ابْنُ اللَّهِ.
والثابت عند المؤرّخين حتى اليهود أنفسهم أن التوراة التي كتبها موسى، ووضعها في تابوت العهد قد فقدت عند ما تغلّب العمالقة على بني إسرائيل، أو بختنصّر قبل عهد سليمان عليه السّلام، فإنه لما فتح التّابوت، لم يجد فيه غير لوحي الوصايا العشر، كما جاء في سفر الملوك الأوّل، وأنّ عزرا هو الذي كتب

صفحة رقم 181

التّوراة بعد السّبي بالحروف الكلدانية مع بقايا العبرانية. ويرى النقّاد- كما جاء في دائرة المعارف البريطانية- أن أسطورة عزرا اختلقها الرّواة اختلاقا.
وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وكان قدماؤهم يريدون بالنبوّة معنى مجازيا لا حقيقيا، يعنون به أنه المحبوب المكرّم عند الله، ثم تأثروا بوثنية الهنود، فصاروا يعنون بالبنوّة معنى حقيقيا، وأن ابن الله هو الله، وهو روح القدس، إذ اندمجت هذه الأقانيم الثلاثة وصارت واحدا حقيقة، وكان أول من أعلن ذلك مجمع نيقية ٣٢٥ م أي بعد المسيح بثلاثة قرون، وصارت كلمة (الثّالوث) وهي الأب والابن وروح القدس تطلق على هذه الأقانيم الثّلاثة، التي حلّت في اللّاهوت. وكتبت الأناجيل بعد المسيح عليه السّلام في مدّة تتراوح بين قرن وثلاثة قرون، وقد تأثّرت بوثنية الرّومان، بعد أن فقد الإنجيل الأصلي الذي نزل على عيسى عليه السّلام.
وبما أنّ كلّا من اليهود والنّصارى لا يعتمدون على أصل صحيح لديانتهم، وأن المكتوب لديهم مخترع موضوع من قبل علمائهم، لذا كذّبهم الله تعالى بقوله:
ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي لا مستند لهم فيما ادّعوه سوى افترائهم واختلاقهم، كما قال تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف ١٨/ ٤- ٥].
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي يشابهون في كفرهم قول من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضلّ هؤلاء، وهم الوثنيّون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرّومان. كما أن مشركي العرب كانوا يقولون: الملائكة بنات الله.
قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم الله، كيف يصرفون عن الحق وهو توحيد الله

صفحة رقم 182

وتنزيهه إلى غيره وهو الشّرك الباطل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله، ولا يعقل أن يجعل المخلوق خالقا، مع أنه يأكل ويشرب ويتعب ويألم، لذا قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ... [المائدة ٥/ ٧٥]، وقال تعالى عن المسيح:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزّخرف ٤٣/ ٥٩]، وقوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
[النساء ٤/ ١٧٢].
ثم أوضح تعالى وجه مضاهاة من كفروا قبلهم، فقال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي اتّخذوا اليهود والنصارى رؤساء الدّين فيهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يقومون بحقّ التّشريع، فيحلّون الحرام، ويحرّمون الحلال، ويطيعونهم في ذلك، تاركين حكم الله.
أما اليهود فقد أضافوا لأحكام التّوراة ما شرعه رؤساؤهم، وأما النّصارى فقد غيّروا أحكام التّوراة وأوجدوا شرائع أخرى في العبادات والمعاملات.
ويوضح ذلك قصة إسلام عدي بن حاتم، روى الإمام أحمد والتّرمذي وابن جرير الطّبري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فرّ إلى الشّام، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على أخته، وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطّائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم- وفي عنق عدي صليب من فضة- وهو يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنّهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إيّاهم.

صفحة رقم 183

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا عدي ما تقول؟ أيضرّك أن يقال: الله أكبر؟
فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرّك؟ أيضرّك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟»
.
ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم، والنّصارى ضالّون».
ثم أبان الله تعالى ترك أولئك الرؤساء دينهم، فقال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى إلا أن يعبدوا إلها واحدا، وهو الله الذي شرّع لهم أحكام الدّين، وهو ربّهم وربّ كلّ شيء، فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أنه تعالى شرعا وعقلا لا يوجد إله غيره، وأنه تعالى تنزّه وتقدّس عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
ولكن هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب يريدون أن يطفئوا نور الإسلام الذي بعث به رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، ويطفئوا شعلة الحقّ ومصباح الهداية، فيضلّ الناس أجمعون.
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه، ولو كره الكافرون ذلك بعد تمامه، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه. أما اليهود فكانوا أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، فهم كمشركي العرب.
وأما النّصارى الرّوم فبدؤوا عدوانهم على المسلمين، ثم استمرّ الأوربيون في عدوانهم على الشرق الإسلامي، ثم جاءت الحروب الصّليبيّة التي مثّلت قمّة

صفحة رقم 184

العدوان على المسلمين، وما زالت السّياسة الاستعمارية والتّبشيرية تحتضن المخططات الرّهيبة لتفريق المسلمين وإبعادهم عن دينهم بمختلف الوسائل الإعلامية والمواقف الحاقدة المتحيّزة ضدّ مصالحهم في أي مكان.
وأما النّور الإسلامي فهو الذي أرسل الله به رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر. والهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدّنيا والآخرة.
والهدف من ذلك أن يعلي تعالى هذا الدّين على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك الإظهار. وقد وصفوا بالشّرك بعد الوصف بالكفر للدّلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرّسول والشّرك.
وقد تحقّق وعد الله ونصره، كما ثبت
في الصّحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعزّ عزيزا، ويذلّ ذليلا، إما يعزّهم الله، فيجعلهم من أهلها، وإما يذلّهم فيدينون لها».
وفي مسند أحمد أيضا عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «فوالذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الدّين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».

صفحة رقم 185

فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآيات أن أكثر اليهود وأكثر النّصارى مشركون لأنهم نسبوا الابن لله، مقلّدين في ذلك من سبقهم من الكفار كمشركي العرب الذين كانوا يقولون:
الملائكة بنات الله، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك، فإن حكاية الله عنهم أصدق، ولعلّ هذا المذهب كان فاشيا فيهم، ثم انتهى.
وقال ابن العربي: في هذا دليل من قول ربّنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره- الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به- لا حرج عليه لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له، والردّ عليه، فلا يمنع ذلك منه، ولو شاء ربّنا ما تكلّم به أحد، فإذا مكّن من إطلاق الألسن به، فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والرّدّ عليه بالحجّة والبرهان «١».
وقد كذّبهم الله تعالى بقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي أنه قول ساقط باطل لا يتجاوز الفم، ولعنهم بقوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: كلّ شيء في القرآن قتل فهو لعن.
ثم وصفهم تعالى بنوع آخر من الشّرك بقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله والأكثرون من المفسّرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، مع أن التّوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بألا يعبدوا إلا إلها واحدا، وأنه لا إله إلا هو، تنزّه من أن يكون له شريك في الأمر والتّكليف أو التّشريع، وأن يكون له شريك في كونه مسجودا له أو معبودا، وأن يكون له شريك يستحقّ التّعظيم والإجلال.

(١) أحكام القرآن: ٢/ ٩١٣ [.....]

صفحة رقم 186

ثم أخبر الله تعالى عن نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنّصارى، وهو سعيهم في إبطال دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وإمعانهم في إخفاء أدلّة صحّة شرعه وقوّة دينه.
والمراد من النّور: الدّلائل الدّالّة على صحّة نبوّته.
أوّلها- المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده.
وثانيها- القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مع أنه كان أميّا.
وثالثها- أنّ حاصل شريعته تعظيم الله والثّناء عليه، والانقياد لطاعته، وصرف النّفس عن حبّ الدّنيا أي الحرص عليها دون الآخرة، والتّرغيب في سعادات الآخرة، والعقل يدلّ على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه.
ورابعها- أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب، فليس فيه دعوة إلى غير الله، وإلى إصلاح حياة البشر «١».
ثم إنه تعالى وعد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم مزيد النّصر والقوة وإعلاء المنزلة، فقال:
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
ثم بيّن الله تعالى بعد خيبتهم في إبطال دعوة الإسلام كيف يتمّ أمره بقوله:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ.
وفي هذه الآية الأخيرة دلالة على أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم تمتاز بكثرة الدّلائل والمعجزات على صحّتها، وهو الهدى، وأنها دين الحقّ المشتمل على الصّواب والصّلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدّنيا والآخرة، وأن دينه يعلو على كلّ الأديان، ويغلب كلّ الأديان، فلا دين يصمد أمام النّقاش العلمي والعقلي غير دين الإسلام. والتّاريخ على ممرّ الزّمان يؤكّد إنجاز هذه الوعود علانية في

(١) تفسير الرّازي: ١٦/ ٣٨- ٣٩

صفحة رقم 187
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية