المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال المنافقين، المتخلفين عن الجهاد، المثبطين عنه، ذكر صفات المؤمنين المجاهدين، الذين باعوا أنفسهم لله.. ثم ذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتوبة الله عليهم، وختم السورة بتذكير المؤمنين بالنعمة العظمى، ببعثة السراج المنير، النبي العربي، الذي أرسله الله رحمة للعالمين.
اللغَة: ﴿أَوَّاهٌ﴾ كثير التأوه ومعناه الخاشع المتضرع، يقال: تأوه الرجل تأوهاً إِذا توجع قال الشاعر:
إِذا ما قمت أُحلها بليلٍ... تأوه آهة الرجل الحزين
﴿حَلِيمٌ﴾ الحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنب ويصبر على الأذى ﴿العسرة﴾ الشدة وصعوبة الأمر وتسمى غزوة تبوك «غزوة العسرة» لما فيها من المشقة والشدة ﴿يَزِيغُ﴾ الزيغ: الميل: يقال زاغ قلبه إِذا مال عن الهدى والإِيمان ﴿ظَمَأٌ﴾ الظمأ: شدة العطش ﴿نَصَبٌ﴾ النصب: الإِعياء والتعب ﴿مَخْمَصَةٌ﴾ مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ﴿يَنَالُونَ﴾ يصيبون، نال الشيء إِذا أدركه وأصابه ﴿غِلْظَةً﴾ شدة وقوة وحمية ﴿عَزِيزٌ﴾ صعب وشاق ﴿عَنِتُّمْ﴾ العنت: الشدة والمشقة.
سَبَبُ النّزول: أ - «لما بايع الأنصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلاً - قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإِذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» فنزلت ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ... ﴾ الآية.
ب - لما حضرت أبا طالب الوفاة، «دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم قل» لا إِله إِلا الله «كلمة لك بها عند الله، فقال أبو جهل وابن أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول» لا إِله إِلا الله «فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ... ﴾ » ونزلت ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: ٥٦].
التفسِير: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ أي اشترى أموال
المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائع فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم ﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾ أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً ﴿فِي التوراة والإنجيل والقرآن﴾ أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة «التوراة، والإِنجيل، والقرآن» ﴿وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ﴾ الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ ﴿مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ أي أبشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح ﴿وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه ﴿التائبون العابدون الحامدون﴾ كلا مستأنف قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإِن لم يجاهدوا كقوله
﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [النساء: ٩٥] والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء ﴿السائحون﴾ أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار ﴿الراكعون الساجدون﴾ أي المصلون ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر﴾ أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾ أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين ﴿وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى﴾ أي ولو كان المشركون أقرباء لهم ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم﴾ أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾ هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ [مريم: ٤٧] وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ
مِنْهُ} أي فلما تبين لإِبراهيم أن أباه مصرّ على الكفر ومستمر على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ﴾ أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب ﴿حَلِيمٌ﴾ أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله
﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم: ٤٦] فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك قال أبو حيان: ولما اكن استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً﴾ نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ أي بعد أن وفقهم للإِيمان ﴿حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال ﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي بيده وحده حياتهم وموتهم ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه املك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾ أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ﴿الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة﴾ أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقد أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها
جاوزت العسكر ﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾ أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي لطيف رحيم بالمؤمنين ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ﴾ أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم «كعب، وهلال، ومرارة» ﴿حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي ضاقت عليهم مع سعتها ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب
«أن الرسول عليه السلام دار لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم» ﴿وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾ أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾ عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم أن يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب قال الزمخشري: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾ أي ولا تعب ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾ أي ولا مجاعة ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ أي في طرق الجهاد ﴿وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً﴾ أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم ﴿يَغِيظُ الكفار﴾ أي يغضب الكفار وطؤها ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾ أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله ﴿إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ قال ابن عباس: تمرة فما فوقها ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً﴾ أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ أي أثبت لهم أجر ذلك ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن
جزاء ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ أي فإِذا لم يكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال
﴿ليعلموا﴾ [الكهف: ٢١] بدل ﴿َلِيُنذِرُواْ﴾ و ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ﴾ بدل ﴿يَحْذَرُونَ﴾ لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار﴾ أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا إلى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد ﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ أي من سور القرآن ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ أي فأما المؤمنون فزداتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً ﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي ماتوا على الكفر ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ ﴿ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا﴾ أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا ﴿صَرَفَ الله قُلُوبَهُم﴾ جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي لقد جاءكم أيها
القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي حريص على هدايتكم ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله﴾ أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود سواه ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره ﴿وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء؛ الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِنَّ الله اشترى﴾ استعارة تبعية شبه بذلهم الأموال والأنفس وإِثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء.
٢ - ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ فيه جناس ناقص لاختلافهما في الشكل وهو من المحسنات البديعية.
٣ - ﴿الراكعون الساجدون﴾ يعني المصلون فيه مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
٤ - ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ الإِظهار في مقام الإِضمار للاعتناء بهم وتكريمهم.
٥ - ﴿مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
٦ - ﴿لِيُضِلَّ... هَدَاهُمْ﴾ بينهما طباق وكذلك بين ﴿يُحْيِي... وَيُمِيتُ﴾ وكذلك ﴿ضَاقَتْ... رَحُبَتْ﴾.
٧ - ﴿التواب الرحيم﴾ من صيغ المبالغة.
٨ - ﴿يَطَأُونَ مَوْطِئاً﴾ جناس الاشتقاق وكذلك ﴿يَنَالُونَ نَّيْلاً﴾.
٩ - ﴿صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ طباق.
١٠ - ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ قال في تلخيص البيان: السورة لا تزيد الأرجاس رجساً، ولا القلوب مرضاً، بل هي شفاء للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمىً، وحسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
تنبيه: «روي أن أبا خيثمة الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحر والريح ﴿ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خلفه فإِذا براكب وراء السراب، فقال: كن أبا خيثمة﴾ فكان ففرح به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستغفر له».