
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا﴾ قَرَأَ عِكْرِمَة بن عمار: " وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا " مخفف، وَفِي بعض الْقرَاءَات: " وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خالفوا ".
وَاعْلَم أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة هم الَّذين أنزل الله فِي شَأْنهمْ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله﴾ وَأما أَسمَاؤُهُم: كَعْب بن مَالك، وهلال بن أُميَّة، ومرارة بن

﴿بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم﴾ الرّبيع، وَكَانُوا مُؤمنين مُخلصين تخلفوا بِغَيْر عذر، فَلَمَّا قدم النَّبِي الْمَدِينَة قَافِلًا من غَزْوَة تَبُوك، حَضَرُوا وأقروا عِنْده بالذنب، وَأَنه لم يكن لَهُم عذر، فَأخر أَمرهم وَلم يسْتَغْفر لَهُم، وَنهى الْمُسلمين عَن مخالطتهم ومكالمتهم.
وَفِي الْآيَة قصَّة طَوِيلَة مَذْكُورَة فِي " الصَّحِيحَيْنِ "؛ فَروِيَ أَنهم مَكَثُوا على ذَلِك أَرْبَعِينَ لَيْلَة، ثمَّ إِن رَسُول الله أَمرهم أَن يعتزلوا نِسَاءَهُمْ إِلَى تَتِمَّة خمسين لَيْلَة، وَكَانُوا يسلمُونَ على أَصْحَاب رَسُول الله فَلَا يردون عَلَيْهِم السَّلَام. قَالَ كَعْب بن مَالك: فَكنت أَدخل الْمَسْجِد وأصلي وَأنْظر هَل ينظر إِلَيّ رَسُول الله فَكنت إِذا نظرت إِلَيْهِ صرف عني بَصَره، قَالَ: فَاقْتَحَمت يَوْمًا على أبي قَتَادَة حَائِطه - وَكَانَ ابْن عمي - فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَليّ الْجَواب، فَقلت لَهُ: يَا ابْن عمي، أتعلم أَنِّي أحب الله وَرَسُوله؟ فَسكت عني، فَرددت الْكَلَام ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَة: الله وَرَسُوله أعلم، قَالَ: فَبَكَيْت بكاء شَدِيدا وَخرجت، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ تَتِمَّة خمسين لَيْلَة من يَوْم نهى رَسُول الله عَن كلامنا، كنت على ظهر بَيْتِي وَقد صليت الصُّبْح، وَأَنا كَمَا ذكر الله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ﴾ أَي: برحبها وسعتها ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم﴾ أَي: من جفوة الْقَوْم وغلظة رَسُول الله عَلَيْهِم، إِذْ سَمِعت مناديا يُنَادي على ذرْوَة سلع - والسلع: الْجَبَل -: أبشر يَا كَعْب بن مَالك، قَالَ: فَخَرَرْت لله سَاجِدا، وَجَاء البشير فأعطيته ثوبي ولبست ثَوْبَيْنِ غَيرهمَا، وأتيت رَسُول الله وَجَلَست بَين يَدَيْهِ وَوَجهه يَسْتَنِير كاستنارة الْقَمَر، فَقَالَ: أبشر يَا كَعْب بن مَالك بِخَير يَوْم مر عَلَيْك مُنْذُ أسلمت فَقلت: يَا رَسُول الله، أَمن عنْدك أم من عِنْد الله؟ فَقَالَ: لَا، بل من عِنْد الله وَقَرَأَ على الْآيَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن من تَوْبَتِي أَن أَخْلَع من (جَمِيع) مَالِي صَدَقَة لله وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ: أمسك عَلَيْك بعض مَالك؛ فَهُوَ خير لَك " الْقِصَّة إِلَى آخرهَا.

﴿وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم (١١٨) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين (١١٩) مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ﴾ مَعْنَاهُ: وظنوا: تيقنوا أَن لَا مفزع وَلَا منجا من الله إِلَّا إِلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: ﴿ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا﴾ يَعْنِي: ليستقيموا على التَّوْبَة ويثبتوا عَلَيْهَا، فَإِن تَوْبَتهمْ قد سبقت ﴿إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.