
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ فِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ هُوَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخِذَ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذٍ: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ»
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آخِذَ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ هُوَ مُعَاذٌ وَإِذَا دُفِعَتِ الصَّدَقَةُ إِلَى الْفَقِيرِ فَالْحِسُّ يَشْهَدُ أَنَّ آخِذَهَا هُوَ الْفَقِيرُ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أَنَّ الْآخِذَ هُوَ الرَّسُولُ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْآخِذَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ أَخْذَ الرَّسُولِ قَائِمٌ مُقَامَ أَخْذِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَخْذَهُ لِلصَّدَقَةِ جَارٍ مَجْرَى أَنْ يَأْخُذَهَا اللَّهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِيذَاءُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِأَخْذِهَا وَيُبَلِّغُ حُكْمَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِلَى النَّاسِ، وَأُضِيفَ إِلَى الْفَقِيرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ الْأَخْذَ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التَّوَفِّي إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [الْأَنْعَامِ: ٦٠] وَأَضَافَهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: ١١] وَأَضَافَهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: ٦١] فَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَإِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ لِلرِّيَاسَةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْعَمَلِ، وَإِلَى أَتْبَاعِ مَلَكِ الْمَوْتِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي عِنْدَهَا يخلق الله الموت، فكذا هاهنا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ، وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا طَيِّبًا وَأَنَّهُ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ وَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ تَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَتَصِلُ إِلَى الَّذِي يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَقَعَ فِي كَفِّ اللَّهِ،
وَلَمَّا رَوَى الْحَسَنُ هَذَيْنِ الْخَبِرَيْنِ قَالَ: وَيَمِينُ اللَّهِ وَكَفُّهُ وَقَبْضَتُهُ لَا تُوصَفُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَاعْلَمْ أَنَّ لفظ اليمين والكف من التقديس.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٥]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جَامِعٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ إِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَنْتَفِعِ الْعَبْدُ بِفِعْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَقُلْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَدْحَ فِي إِلَهِيَّةِ الصَّنَمِ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ حَجَرٌ وَخَشَبٌ وَأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِتَصَرُّفِ الْمُتَصَرِّفِينَ، فَمَنْ شَاءَ أَحْرَقَهُ، وَمَنْ شَاءَ كَسَرَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَتَوَهَّمُ الْعَاقِلُ كَوْنَهُ إِلَهًا؟ بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ أَكْثَرَ عَبْدَةِ

الْأَصْنَامِ كَانُوا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبَاعَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَلَيْسَ بِمُوجَدٍ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَقَالَ: الْمُوجَبُ بِالذَّاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْخَيْرَاتِ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِنْفَاعِ وَالْإِضْرَارِ، وَلَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الْمُحْتَاجِينَ وَلَا يَرَى تَضَرُّعَ الْمَسَاكِينِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهِ؟ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ دَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الطَّعْنَ فِي قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِلَهُ الْعَالَمِ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا وَكَانَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْعِبَادِ الْفَوَائِدُ الْعَظِيمَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَطَاعَ عَلِمَ الْمَعْبُودُ طَاعَتَهُ وَقَدَرَ عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ عَصَاهُ عَلِمَ الْمَعْبُودُ ذَلِكَ، وَقَدَرَ عَلَى إِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَوْلُهُ:
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ لِلْمُطِيعِينَ، وَتَرْهِيبٌ عَظِيمٌ/ لِلْمُذْنِبِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
اجْتَهَدُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ لِعَمَلِكُمْ فِي الدُّنْيَا حُكْمًا وَفِي الْآخِرَةِ حُكْمًا. أَمَّا حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ يَرَاهُ اللَّهُ وَيَرَاهُ الرَّسُولُ وَيَرَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ كَانَ طَاعَةً حَصَلَ مِنْهُ الثَّنَاءُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً حَصَلَ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ الشَّدِيدُ فِي الْآخِرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَسَائِلَ أُصُولِيَّةٍ.
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُعَدَّاةَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، هِيَ الْإِبْصَارُ، وَالْمُعَدَّاةَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ هِيَ العلم، كما تقول رأيت زيدا فقيها، وهاهنا الرُّؤْيَةُ مُعَدَّاةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُبْصِرًا لِلْأَشْيَاءِ كَمَا أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مَرْيَمَ: ٤٢] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبْصِرًا وَرَائِيًا لِلْأَشْيَاءِ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا هاهنا عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ هِيَ الْعِلْمُ لَزِمَ حُصُولُ التَّكْرِيرِ الْخَالِي عَنِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
الْحُكْمُ الثَّانِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُعَدَّاةٌ إِلَى مفعول واحد، والقوانين اللغوية شاهدة بأن الرُّؤْيَةَ الْمُعَدَّاةَ إِلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهَا الْإِبْصَارُ. فَكَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مَعْنَاهَا الْإِبْصَارُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَدَّى هَذِهِ الرُّؤْيَةَ إِلَى عَمَلِهِمْ وَالْعَمَلُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، كَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ وَالْأَنْظَارِ. وَإِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى رَائِيًا لِلْكُلِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَرْئِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالِاجْتِمَاعَاتِ وَالْاِفْتِرَاقَاتِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، فَيَلْزَمُكَ كَوْنُهُ تَعَالَى رَائِيًا لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَأَجَابَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ إِنَّمَا يَرَوْنَ أَفْعَالَ الْجَوَارِحِ، فَلَمَّا تَقَيَّدَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فِي حَقِّ الْمَعْطُوفِ وَجَبَ تَقْيِيدُهَا بِهَذَا الْقَيْدِ فِي حَقِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَصْلَ التَّشْرِيكِ. فَأَمَّا التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَغَيْرُ

وَاجِبٍ، فَدُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَعْطُوفِ، لَا يُوجِبُ دُخُولَ التَّخْصِيصَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ/ الْجَوَابُ عَنْ أَصْلِ الِاسْتِدْلَالِ فَيُقَالُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلَةٌ فِي الْحَالِ. وَالْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لفظ الآية وهو قَوْلُهُ:
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَمْرٌ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ السِّينَ تَخْتَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَقَوْلُهُ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَيْ فَسَيُوصِلُ لَكُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ. وَلِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، بِأَنَّ إِيصَالَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ مَذْكُورٌ بِقَوْلِهِ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ؟
وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ وَصُولُ خَبَرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ إِلَى الْكُلِّ.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ عَمَلًا فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كُوَّةَ لَخَرَجَ عَمَلُهُ إِلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ».
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَعْمَالَ هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ؟
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْدَرَ مَا يَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْعِزِّ الَّذِي يَلْحَقُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَظَّمَهُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ، عَظُمَ فَرَحُهُ بِذَلِكَ وَقَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ، وَمِمَّا يُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهَا رُؤْيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُحِقِّينَ الْمُحَقِّقِينَ فِي عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ، فَاعْمَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كُنْتَ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْمَشْغُولِينَ بِثَنَاءِ الْخَلْقِ فَاعْمَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِتَفُوزَ بِثَنَاءِ الْخَلْقِ، وَهُوَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] الْآيَةَ، وَالرَّسُولُ شَهِيدُ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] فَثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالشَّهَادَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ حُضُورِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالسَّدَادِ وَالْعَفَافِ وَالرَّشَادِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْغَيْبُ مَا يُسِرُّونَهُ، وَالشَّهَادَةُ مَا يُظْهِرُونَهُ. وَأَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْبُ مَا حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَالشَّهَادَةُ الْأَعْمَالُ/ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى جَوَارِحِهِمْ، وَأَقُولُ أَيْضًا مَذْهَبُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْغَائِبَةَ عَنِ الْحَوَاسِّ عِلَلٌ أَوْ كَالْعِلَلِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعَلَمِ بِالْمَعْلُولِ. فَوَجَبَ كَوْنُ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ سَابِقًا عَلَى الْعِلْمِ بِالشَّهَادَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْنَمَا جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ كَانَ الْغَيْبُ مُقَدَّمًا عَلَى الشَّهَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَإِنْ حَمَلْنَا تِلْكَ الرُّؤْيَةَ عَلَى الْعِلْمِ أَوْ عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ