هذه الأشياء من الأمراض، وما يفضي إليه من ترد وهدم وغرق وحرق وقتل وشبهها، وقد قدر الله تعالى هذا لعمر الإنسان، لأن الحيوان بعيش في الغالب سبعة أمثال مدة بلوغه، وأكثر، وأقل، بحسب ما هو مقدر عند الله من الأجل المبرم والمعلق، وزمن بلوغ الإنسان على القول الوسط خمس عشرة سنة، فتكون مع سبعة أمثالها مئة وعشرين، وهو معنى القرن، وكثيرا ما يقضون قبل ذلك بما يقدره الله عليهم من تلك العوارض، وكثيرا ما يعيشون أكثر، وقد عاش شيخنا الشّيخ حسين الأزهري مفتي الفرات سابفا مئة وسبعا وعشرين سنة مستجمعا كمال حواسه العشرة، ولم يعتره شيء من أمارات الهرم، رحمه الله، وبلّغنا ما بلغه، وجعل لنا لسان صدق مثله.
ثم قسم الله المنافقين ثلاثة أقسام ذكر الأوّل بقوله عز قوله «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ» المحيطين بالمدينة «مُنافِقُونَ» يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وهم من مزينة وجهينة وأسجع وغفار وأسلم أي القليل منهم، بدليل لفظ من التبعيضية، والكثير منهم ممدوحون كما مر في الحديث السّابق عقب الآية (٩٩) المارة الدّالة على مدحهم، وفي هذا القسم المذموم الممقوت المذكورون في قوله تعالى «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» منافقون «مَرَدُوا» تمرنوا واعتادوا «عَلَى النِّفاقِ» وهم من الأوس والخزرج، وأنت يا سيد المرسلين «لا تَعْلَمُهُمْ» لأنهم يظهرون لك الإيمان والإخلاص والصّدق والطّاعة والحمية ولكن «نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» لأنا مطلعين على ما تكنّه صدورهم من الكفر والغش والبغض والكذب والعصيان ولهذا فإنا «سَنُعَذِّبُهُمْ» على تزويرهم هذا، وخداعهم لك «مَرَّتَيْنِ» الفضيحة والخزي والهوان والعار والشّتار في الدّنيا، والعذاب الدّائم المقيم مدة البرزخ في القبر وكلا هذين العذابين في الدّنيا، لأن مدة البرزخ من أيامها، وعلى هذا عامة المفسرين يؤيده قوله تعالى، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» (١٠١) في الآخرة لأنها محل ردّ كل الخلق فإنه مكان مكافآتهم ومجازاتهم، وهذه الآية من الآيات الصّريحة الدّالة على عذاب القبر، راجع الآية ٤٦ من سورة المؤمن المارة في ج ٢. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأن كلّ ما يخبر به هو
من تعليم الله إياه وإخباره له بواسطة أمينه جبريل عليه السّلام. قال الكلبي قام النبي صلّى الله عليه وسلم خطيبا يوم جمعة فقال: أخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج أناسا من المسجد وفضحهم ولم يك عمر شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء، لأنه لم يشهد الجمعة، وظن أن النّاس قد انصرفوا واختبأوا هم منه أيضا، إذ ظنوا أنه قد علم بأمرهم خجلا من أن يراهم، فدخل المسجد فإذا بالناس لم ينصرفوا، فقال له رجل أبشر يا عمر فإن الله قد فضح المنافقين اليوم- أخرجه ابن أبي هاشم والطّبراني في الأوسط عن ابن عباس- وفي رواية ابن مردوية عن أبي مسعود الأنصاري أنه صلّى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا، ثم بين القسم الثاني بقوله «وَآخَرُونَ» من مسلمي المدينة الّذين تخلفوا عن الرّسول بشائبة النفاق، فلم يخرجوا معه إلى تبوك «اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» أمام حضرة الرّسول عند رجوعه وأظهروا له النّدم والأسف على ما وقع منهم، ولم يتقدموا بمعاذير واهية مختلفة كالأولين، فهؤلاء بفعلهم هذا وبيانهم الواقع طوعا منهم يعدّون قد «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً» وهو خروجهم مع حضرة الرّسول في الغزوات السّابقة وصدقهم فيها وندمهم على عدم ذهابهم مع الرّسول في هذه الغزوة ندامة حقيقة «وَآخَرَ سَيِّئاً» وهو تخلفهم عنه في هذه الغزوة وموافقتهم المنافقين على عدم الخروج معه قبلا، وهؤلاء لم يكن الله ليضيع أعمالهم السّابقة الصّادقة، ولذلك قال جل قوله «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» لسابق فعلهم الحسن وتحسين نيتهم والتمني من الله تعالى للتحقيق، لأن اعترافهم برضاهم دليل على صدق نيتهم.
وتشير هذه الآية على قبولهم، ولذلك لم يذكر الله ما يدل على عقابهم. روى الطبري عن ابن عثمان قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية، وذلك لأن ظاهرها يفيد أن مجرد عمل صالح وجد من الإنسان مع أعمال سيئة يرجى له الخير، وقد لا يخلو مسلم من عمل خير مهما كان شريرا والحمد لله، راجع الآية ٦ من سورة الرّعد المارة وما ترشدك إليه من المواضع ترشد لما تريد، واعلم أن الخلط هنا عبارة عن الجمع المطلق كاختلاط النّاس والأواني وغيرها بعضها ببعض،
والواو هنا نائبة عن مع، إذ بقي كلّ عمل صالح على حاله، فالطاعة تبقى على حالها موجبة للثواب، والمعصية تبقى على حالهما مفضية للعقاب، والقول بالإحباط باطل، وهذا على خلاف قولك خلطت الماء بالعسل لا متزاجهما واندماج كلّ منهما بالآخر، فلم يبق العسل عسلا ولا الماء ماء، ومن قال بالإحباط أراد هذا المعنى الأخير تأمل. ومما يدل على قبول التوبة وعدم الإحباط ختم الآية بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١٠٢) لأن تصديرها بحرف التأكيد دليل على انه ينجز الوعد لهم يسائق مغفرته ورحمته، ومن دلائل قبول التوبة أيضا قوله تعالى خطابا لسيد المخاطبين «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ» أي المعترفين المذكورين «صَدَقَةً» تكون كفارة لما صدر منهم «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» من أدران خطاياهم «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ» ادع بالتجاوز عما اقترفوه وإزالة الصّدأ من قلوبهم بالكلية «إِنَّ صَلاتَكَ» يا حبيبي لو يعلمون «سَكَنٌ لَهُمْ» وأمن وطمأنينة لأفئدتهم بقبول توبتهم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (١٠٣) بنيتهم وإخلاصهم في قولهم وفعلهم ونزلت هذه الآية بعد قبول توبتهم وبعد أن تصدقوا بمالهم فرحا بقبول توبتهم وهي عند الله كذلك قبل ذلك فلا يخطر ببالك غيره ولا يتصوره إلّا زنديق أو منافق، لأن الله ورسوله غنيّان عن أموال النّاس لا سيما أن الصّدقة لا تحل لحضرة الرّسول، وإنما يأخذها ليعطيها مستحقيها، وإنما حمى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم من أخذ الصّدقة لنفسه وحرمها على أقاربه أيضا وإن كانوا فقراء، لئلا يظن به أحد في أخذها ظنا يسيء السّمعة، لا سيما أن النّفس سريعة الظّن بالسوء بطيئة بالحسن، روي عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشّجرة قال كان النّبى صلّى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال اللهم صلّ عليهم «فأتاه أبي بصدقة فقال اللهم صل على آل أبي أوفى- أخرجاه في الصّحيحين- والدّليل الثالث على قبول توبتهم قوله جل قوله «أَلَمْ يَعْلَمُوا» هؤلاء النّادمون المعترفون بخطائهم «أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» المعطاة كفارة للذنوب التي تيب عليها وغيرها الصّادرة عن طيب نفس والأخذ منه تعالى يكون بواسطة رسوله دليل القبول «أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (١٠٤) نزلت هاتان الآيتان في جماعة
صفحة رقم 481
من المسلمين الّذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو أوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام وأبو لبابة بن عبد النّور وغيرهم، وهم دون العشرة وأكثر من الخمسة، وقد قال بعضهم لبعض أنكون من الضّلال ومع النّساء ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللّأواء (أي الشّدة)، فلما قرب مجيء الرّسول إلى المدينة أرثفوا أنفسهم في سواري المسجد وقالوا والله لبقين حتى يطلقنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما مر بهم قال من هؤلاء؟ قالوا الّذين تخلفوا عنك عاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى ترضى عنهم، قال وأنا أقسم أن لا أطلقهم حتى أومر، فأنزل الله الآية الأولى فأطلقهم، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك وتصرف بها واستغفر لنا، قال ما أمرت أن آخذ منها شيئا، فأنزل الله الآية الثانية، فأخذ ثلثها وتصدق به كفارة لذنوبهم. وهذا مما يؤيد أن المراد في هذه الآية غير الزكاة الواجبة التي قال بها بعض المفسرين لأن تلك لها قدر معلوم، ولأن الزكاة فرضت في السّنة الثانية من الهجرة في شوال أو شعبان على اختلاف في الرّواية، وهذه الآية نزلت مع سورتها في السّنة التاسعة من الهجرة، أي بعد فرض الزكاة بسبع سنين، ولم يقل أحد بتقديم نزول هذه الآية على سورتها لأن نزولها دفعة واحدة مجمع عليه كما أشرنا إليه آنفا، وما قاله بعض الفقهاء، الأصل فيها أي الزكاة قبل الإجماع قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) الآية، وقوله تعالى (وَآتَوُا الزَّكاةَ) وهذه
الجملة مكررة كثيرا في القرآن المكي والمدني، وقوله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس. فيه تسامح بذكر هذه الآية فقط، لأن السّياق والسّياق ينافيه، ويأباه تخالف انتظام الآيات وتناسبها وأسباب نزولها، والحق الاقتصار على الآية الثانية والحديث لاحتمال وقوعها في السّنة الثانية، وقد ذكرنا في الآية ٢٦١ و ٢٦٥ من سورة البقرة المارة الدّالة على فرض الزكاة بعموم أنواعها صراحة فراجعها، وراجع الآيتين ٩٧ و ٩٨ قبلها أيضا ليطمئن قلبك ويتبقن صحة ما ذكرناه لك، والله أعلم. قال تعالى «وَقُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء التائبين وغيرهم، لأن اللفظ عام، وقد ذكرنا أن العام لا يتقيد بخصوص السّبب «اعْمَلُوا» عملا صالحا تأييدا لتوبتكم هذه «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ» عيانا فيرحمكم ويجازيكم عليه جزاء
خيرا كثيرا «وَرَسُولُهُ» يراه باطلاع الله إياه عليه ويستغفر لكم وهو مجاب الدعوة عند ربه «وَالْمُؤْمِنُونَ» يرونه أيضا لما يقذفه الله في قلوبهم من محبة الصالحين فكأنهم يرون أعمالهم الحسنة إذ يتمثل الحسن فيهم ويدعون لكم «وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» فيها على السّواء عنده لا فرق بين السر والجهر «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (١٠٥) في الدّنيا على اختلاف أنواعه وأصنافه ويجازيكم على الخير بأحسن منه وعلى الشّر مثله. ثم أشار إلى القسم الثالث فقال عزّ قوله «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» وجماعة من المسلمين المتخلفين الّذين وسموا بالنفاق بسبب تخلفهم مؤخر أمرهم في القبول وعدمه لحكم الله فيهم بعد وهؤلاء «إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ» بعدله وقضائه «وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» بفضله ورضائه «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما وقع منهم عالم بأسباب تخلفهم ونيتهم فيه «حَكِيمٌ» (١٠٦) فيما يقضه عليهم وهم الثلاثة الآتي ذكرهم بعد.
مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:
قال تعالى حكاية عن بعض أعمال المنافقين السّابقة فاضحا سرائرهم في أفعالهم كما فضحها بأقوالهم ونياتهم، فقال «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً» بأصحاب رسول الله أهل مسجد قباء «وَكُفْراً» بالله ورسوله «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» الّذين يصلون فيه بأمر من حضرة الرّسول «وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» اتخاذهم ذلك المسجد والمراد بهذا هو أبو عامر الرّاهب وقد أعده له، هؤلاء المنافقون مناوأة للمسلمين الّذين أعدوا مسجدهم لهم ولرسولهم «وَلَيَحْلِفُنَّ» لك يا سيد الرّسل الّذين بنوه وهم وديعة بن ثابت وخزام بن خالد الذي أخرج المسجد المذكور من داره، وثعلبة بن حاطب المار ذكره، وحارثة بن عمر وولداه مجمع وزيد، وشعيب بن قشير، وعبادة بن حنين، وأبو حنيفة بن الأذعر، ونفيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان ومخرح القائلين بحلفهم لك لتصدقهم ما «إِنْ أَرَدْنَ» ببنائه «إِلَّا الْحُسْنى» أي إلّا الإرادة الحسنة
والفعلة الطّيبة والخصلة المرضية، كذكر الله والصّلاة فيه عند ضيق الوقت غير الممكن فيه الوصول إلى مسجد رسول الله رفقا بالعجزة وذوي العاهة وتوسعة عليهم لقربه من بيوتهم، وخاصة للصلاة فيه ليالي الشّتاء وحالة المطر، وكانوا بعد أن أكملوه كلفوا حضرة الرّسول أن يصلي به ويدعو لهم بالبركة، فقال لهم صلّى الله عليه وسلم أنا على جناح سفر، وإن قدمنا من تبوك أتيناكم فصلينا به إن شاء الله. فأعلم الله تعالى رسوله بالقصد من بقائه وقصه عليه في هذه الآية، وختمها بالشهادة على كذبهم، فقال جل قوله «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (١٠٧) فيما ذكروه لك وحانثون في حلفهم، وإن القصد من بنانه إضرار المؤمنين وتفريق كلمتهم وكفر بالله ورسوله وانتظار حضور الرّاهب المذكور الذي حينما قدم على المدينة، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم ما هذا الدّين الذي جئت به؟ فقال صلّى الله عليه وسلم جئت بالحنيفية السّمحة دين ابراهيم عليه السّلام، فقال الرّاهب أبو عامر أنا عليها، فقال له صلّى الله عليه وسلم لست عليها، قال أبو عامر بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلّى الله عليه وسلم ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال صلّى الله عليه وسلم آمين، فسماه النّاس أبا عامر الفاسق، لخروجه على حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم ومقابلته له بكلام خارج عن نطاق الأدب والأخلاق وعار عن الصّحة. هذا ولما كان يوم أحد قال أبو عامر الفاسق للنبي صلّى الله عليه وسلم لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلنك معهم، فلم يزل كذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس أبو عامر الفاسق وهرب إلى الشّام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الرّوم فآتي بجد، فأخرج محمدا وأصحابه، فصدقوا كلامه لخبث نيتهم وقح طريتهم وهم الاثنا عشر رجلا المار ذكرهم في الآية ٦٥، فبنوه لذلك القصد وتلك الغاية، ففضحهم الله تعالى وقال صلّى الله عليه وسلم إلى مالك بن الدّغشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي: اهدموا هذا المسجد الظّالم أهله، فهدموه عليهم وأحرقوه واتخذ لرمي القاذورات والكناسة، ومات الخبيث بالشام طريدا وحيدا غريبا. وروي أن بني عمرو بن عوف الّذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته،
صفحة رقم 484
فسألوه أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم، فقال لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضّرار، قال مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما ائتمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرأون، ولذلك صليت بهم ولا أحسب أنهم على سوء نية، ولا أحسب إلّا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء الآتي ذكره. قال تعالى «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً» لأنه لم يؤسس على تقوى من الله «لَمَسْجِدٌ» عظيم عند الله جليل عند رسوله، واللام فيه للابتداء، وفيه معنى القسم، والمراد به مسجد قباء لأنه «أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ» بني، واعلم أن لفظ من عام في الزمان والمكان، فلا
محل للقول الذي نقله النّسفي رحمه الله بأن القياس أن يقال منذ لأنه لابتداء الغاية في الزمان ومن لابتداء الغاية في المكان، لأن الله أعلم بما ينزل من الألفاظ الموافقة للمعاني المقصودة، وإني لأعجب كلّ العجب من جرأة بعض المفسرين على مثل أقوال هكذا، مع علمهم بأن مصدر العلوم العربية التي يتبححون بها ويدعون معرفتها كلها مستقاة من القرآن العظيم، وإن ما كان منها مخالفا له لا قيمة لها ولا عبرة، فالذي جعل من بمعنى ما وما بمعنى من ألا يجعل منذ بمعنى غاية المكان، ألا يجعل من لابتداء الغاية في الزمان كيف يقال هذا من هذا الرّجل وهي قد أنزلت على منبع الفصاحة ومصدر البلاغة، ومع هذا يتطاولون ويقولون القياس كذا وكذا، أيعترضون على الله الذي هو أعلم بما ينزل، فلا حول ولا قوة إلّا بالله، راجع الآية ٦٧ من سورة يونس ج ٢، والآية ٥ من سورة الحج المارة وابتهر بجرأة المفسرين لهما واستغفر الله والزم الأدب، فهو «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مصليا من مسجد الضّرار الذي أسس على الكفر استعدادا لحضور ذلك الرّاهب الكافر، لأن هذا المسجد المبارك «فِيهِ رِجالٌ» كرام على ربهم «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» طهارة كاملة من النجاسة الحسية والمعنويّة، والكلية الظّاهرة والباطنة، ويأخذون فيها بالعزيمة دون الرخصة «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (١٠٨) لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وقف على باب مسجد قباء، فقال يا معشر الأنصار إن الله عزّ وجل أثنى عليكم فما الذي تصنعون؟ فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار ثم نتبعها بالماء فتلا عليهم الآية وهي عامة في الطّهارة ولا يفهم من هذا نزول الآية منفردة عن سورتها كغيرها من الآيات التي ذكرنا أسباب نزولها، بل نزلت هذه وغيرها مع سورتها دفعة واحدة كما ذكرنا، وتلاوة هذه الآيات وغيرها بمفردها لا يعني نزولها وحدها تأمل. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يزور قباء راكبا وماشيا يصلى فيه ركعتين. وأخرج البخاري عن سهل ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كلّ سبت راكبا وماشيا، وكان ابن عمر يفعله. وأخرج النّسائي عن سهل بن حنيفة قال: قال صلّى الله عليه وسلم من خرج حتي يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة. وأخرج الترمذي عن أسد بن ظهير أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: الصلاة في مسجد قباء كعمرة.
وما قيل أن المراد في المسجد المذكور في هذه الآية مسجد الرّسول ينافيه سياق الآية ومغزى الحادثة والتاريخ أن مسجد الرّسول أفضل المساجد كلها بعد المسجد الحرام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة. ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة ومنبري على حوض. وأخرج النّسائي عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة (أي ثوابت). وجاء في الحديث الصّحيح أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره. ثم ضرب الله مثلا لهذين المسجدين مسجد الضرار ومسجد قباء المسمى مسجد القرى بقوله جل قوله «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ» منه تعالى «خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ» متداع للسقوط كما سيأتي بيانه بعد «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» سقط مع بنائه فيها لأنه ظلم نفسه بذلك «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (١٠٩) أنفسهم المسوين بين مسجد التّقوى ومسجد الضّرار، أي من أسس بنيانه على شفير واد أكل الماء ما تحته فصار هائرا أو واهيا متداعيا للسقوط مثله كالرمل الذي ينهار لرخاوته وعدم تماسكه. وهذا الاستفهام المصدر فيه جاء