
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي: المجاوزين ما أمروا به، قال الكلبي: (﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ بالجهر في الدعاء) (١).
وقال ابن جريج: (من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء) (٢).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: ٥٦]. قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: بالشرك بالله، وقطع الأرحام، وتكذيب النبي - ﷺ - بعد توحيد الله والتصديق بما جاء به النبي - ﷺ -) (٣).
قال المفسرون (٤): (الإفساد في الأرض: العمل فيها بالمعاصي، وسفك الدماء، وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ أي: بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسول، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله عز وجل)، وهذا معنى قول الحسن، والسدي، والضحاك (٥).
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠٧ بسند جيد، ومحبة الله تعالى لا تنتفي عمن يجهر بالدعاء لمجرد الجهر، فالدعاء مأمور به مطلقًا ﴿الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ في كل شيء دعاء كان أو غيره، وأعظمهم الذين يدعون معه غيره أو يعتدون بترك التضرع والدعاء، وكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله، والدعاء خفية أحب إلى الله تعالى وأفضل، وفيه فوائد عظيمة وكثيرة، ذكرها ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢١٩ - ٢٣٣، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٧٨٤، والقرطبي ٧/ ٢٢٣.
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠ نحوه.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٧، والسمرقندي ١/ ٥٤٧، والماوردي ٢/ ٢٣١.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، والبغوي ٣/ ٢٣٨، و"الخازن" ٢/ ٢٤١ عن الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وذكره الماوردي ٢/ ٢٣١، عن الحسن والكلبى، وذكره ابن عطية ٥/ ٥٣٢، عن الضحاك.

وقال عطية: (معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم) (١)، وطى هذا معنى قوله ﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، معنى الخوف (٣) الانزعاج لما لا يؤمن من المضار، ومعنى الطمع (٤) توقع المحبوب، قال ابن عباس: (﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا﴾ من عقابه، ﴿وَطَمَعًا﴾ في ثوابه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال الفراء: (رأيت العرب (٦) تؤنث القريبة في النسب لا يختلفون فيها، فإذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منك قريب، في القرب والبعد ذكروا وأنثوا، وذلك أن
(٢) والآية عامة في كل فساد قل أو كثر بعد أن أصلح الله خلق الأرض على الوجه الملائم لمنافع الخلق وما جاء من تعيين نوع الفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل على التمثيل وهو قول جمهور المحققين.
انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٥٣٢، والقرطبي ٧/ ٢٢٦، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٣٤، و"البحر" ٤/ ٣١١.
(٣) انظر: "العين" ٤/ ٣١٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣٠، و"المفردات" ص ٣٠٣، و"اللسان" ٢/ ١٢٩١ (خوف).
(٤) انظر: "العين" ٢/ ٢٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢١٨، و"الصحاح" ٣/ ١٢٥٤، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٢٥، و"المفردات" ص ٥٢٤، و"اللسان" ٥/ ٢٧٠٤ (طمع).
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، وهو بدون نسبة في عامة كتب التفسير.
انظر: الطبري ٨/ ٢٠٧، والسمرقندي ١/ ٥٤٧، والماوردي ٢/ ٢٣١، والبغوي ٣/ ٢٣٨، وابن الجوزي ٣/ ٢١٦.
(٦) في (ب): (القراء)، وهو تحريف.

القرب إذا لم يكن في النسب كان في معنى المكان، فكأنه في تأويل هي: في مكان قريب، فجعل القريب خلفًا من المكان، كما قال الله (١) تعالى: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٣] وقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: ٦٣]، ولو أنث ذلك فبُني على بعدت فهي بعيدة، وقربت فهي قريبة، كان صوابًا حسنًا. وقال عروة بن حزام (٢):
عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ | فَتدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (٣) |
أخبرني العروضي (٥)، قال: أخبرني الأزهري عن المنذري (٦) عن الحراني (٧) عن ابن السكيت قال: (تقول العرب: هو قريب مني، وهما
(٢) عُروة بن حِزام بن مُهاجر العُذْرى، شاعر إسلامي أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى، وعامة شعره في بنت عمه عفراء، توفي سنة ٣٠ هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤١٣، و"الأغاني" ٢٤/ ١٢٢، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ٤١٥، و"الأعلام" ٤/ ٢٢٦.
(٣) الشاهد في "ديوانه" ص ٥، و"معاني الفراء" ١/ ٣٨١، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٨، و"الأغاني" ٢٤/ ١٢٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٦، و"الخصائص" ٢/ ٤١٢، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٣٢، وابن عطية ٥/ ٥٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٢١٦، و"اللسان" ٦/ ٣٥٦٦ (قرب)، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٤٦.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٨١.
(٥) العروضي: هو أحمد بن محمد الصفار. تقدمت ترجمته.
(٦) المنذري: هو محمد بن أبي جعفر الهروي. تقدمت ترجمته.
(٧) الحراني: هو عبد الله بن الحسن الأموي. تقدمت ترجمته.

قريب مني، وهم قريب (١) مني، وكذلك المؤنث، توحد قريبًا وتذكره؛ لأنه وإن كان فاعلًا فهو في تأويل (هو في مكان قريب مني)، وقد يجوز قريبة وجيدة بالهاء تبنيها على قربت وبعدت) (٢).
وأما مذهب البصريين فقال الزجاج: (إنما قيل: ﴿قَرِيبٌ﴾ لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي) (٣).
ونحو هذا قال الأخفش قال: الرحمة بمعنى الإنعام (٤)، فلذلك ذكر.
ومثل هذا قال سعيد بن جبير: (الرحمة هاهنا: الثواب) (٥).
وأما مذهب أهل الكوفة فقال الزجاج (٦): (وهو غلط؛ كل ما قرب في مكان أو نسب فهو جار على ما يصيبه من التأنيث والتذكير) (٧). والذي قاله الفراء هو مذهب أبي عمرو بن العلاء (٨)، وقول الكسائي (٩) وأبي عبيدة (١٠).
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٦ (قرب)، وانظر: "إصلاح المنطق" ص ١١٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٤.
(٤) في "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٠، وكذلك عند الزجاج عن الأخفش (بمعنى المطر).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، والبغوي ٣/ ٢٣٨، و"الخازن" ٢/ ٢٤٢، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣١٣.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥.
(٨) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩١ ب، والبغوي ٣٣/ ٢٣٨، وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٥.
(٩) لم أقف عليه.
(١٠) في (ب): (أبو عبيد)، وفي مجاز القرآن ١/ ٢١٦ قال: (هذا موضع يكون في =

وقال النضر بن شميل (١): (الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير كقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾) (٢) [البقرة: ٢٧٥]، وهذا راجع إلى قول الزجاج؛ لأنه الموعظة أريد بها الوعظ، فلذلك ذكر (٣) كما قال:
إنَّ السَّمَاحَةَ والمُرُؤءَةَ ضمِّنا (٤)
قيل: أراد بالسماحة السخاء، وبالمروءة الكرم (٥).
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩١ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٦، والرازي ١٤/ ١٣٧، والقرطبي ٧/ ٢٢٧، وأبو حيان في "البحر" ٣١٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٤٤.
(٢) لفظ: (من ربه) ساقط من (أ).
(٣) في (ب): (ذكرا).
(٤) الشاهد لزياد الأعجم في "ديوانه" ص ٥٤، و"معاني الفراء" ١/ ١٢٨، و"الشعر والشعراء" ص ٢٨٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٧، و"ذيل أمالي القالي" ٣/ ٩، و"المدخل" للحدادي ص ١٦٨، و"تفسير الثعلبي" ١٩١ ب، والرازي ١٤/ ١٣٧، وعجزه:
قَبْرًا بِمَرْوَ عَلَى الطَرِيقِ الوَاضِحِ
والشاهد قوله (ضمنًا) والقياس ضمنتا؛ لأن خبر عن مؤنث وهو السماحة والمروءة.
(٥) ذكر هذه الوجوه في الآية عامة أهل اللغة والتفسير. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٧، و"الخصائص" ٢/ ٤١١ - ٤١٢، و"المشكل" ١/ ٢٩٤ وقد أطال ابن القيم -رحمه الله تعالى- كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢٣٢ - ٢٥٨، فذكر اثني عشر مسلكًا في الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله: (قريب) وهو مذكر، وبين ما فيها من الصحيح والمقارب والسقيم، واختار (إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر تبعًا له، ومعنى من "معانيه"، فالأصل: إن =