
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
* * *
ذكرنا أن من الاعتداء في الدعاء، أن ينصرف عن العمل في الدنيا كاسبا متكلا على الدعاء كما يفعل الرهبان، وإنما يجب مع ذكر الله أن يندمج مصلحا في الأرض منتجا مثمرا فإن ذلك فيه إرضاء لله؛ لأن فيه خيرا للعباد ونفعا لهم، و " خير الناس أنفعهم للناس " (١).
وإن الله تعالى في وسط الأمر بالدعاء نهى عن الإفساد في الأرض، ويتضمن ذلك العمل فيها بالإنتاج والإنماء يقوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
إصلاح الأرض: خلقها صالحة لأن يعيش عليها الإنسان في زرعها وغرسها، ومستمتعا بكل حلالها وطيباتها، وقد أرسل الرسل منذرين ومبشرين، وهداة إلى الحق ومصلحين وعاملين للخير.
وإفسادها إشاعة الظلم، وإفساد ما تنتج، والتعدي التعاون على الإثم والعدوان وقطع الأشجار وحرق الثمار، وجاء في القرطبي (تجارة الحكام من الفساد في الأرض).
________
(١) سبق تخريجه.

ونرى أنه قد جاء النهي عن الفساد، ولم يجئ الأمر بالإصلاح؛ وذلك لأن الله تعالى تولى جعل الأرض صالحة لأن يعيش فيها أهلها آمنين مطمئنين بأن جعلها مهادا، وجعل الجبال أوتادا، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات كل شيء: أخرج به حبا متراكبا، وغروسا ذات ثمار يانعة، فهو - سبحانه وتعالى - تولى ما به صلاح ذات الأرض، وأرسل الرسل تصلح ما بين الناس بالحق، وأجرى على أيديهم شرائع تهديهم إلى الرشاد، وتأخذهم إلى الحق إن استقاموا على الطريقة، وإذا عرفنا معنى الإصلاح الذي كان من الله تعالى في الأرض، عرفنا معنى الإفساد الذي يكون بعد الإصلاح الأزلي الذي قرره الله تعالى فيكون الإفساد تخريب العامر، وقطع القائم وإهلاك الحرث والنسل، وتعطيل شرائع الله، وإشاعة الأخلاق الفاسدة، وإثارة الغرائز الفتاكة والقاتلة لكل فضيلة بين الناس، وفتح باب الرشا وأكل السحت.
وقوله: (بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، تقرير لواقع الأمور؛ لأن الفساد لَا يكون إلا تقويضا لصالح، وإنه في وسط تلك المعرفة القائمة بين الصلاح والفساد، مع الامتناع عن الثاني يكون الالتجاء إلى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوفَا وَطَمَعًا).
أي ندعو إليه - سبحانه وتعالى - بدعاء: ربكم الذي خلقكم ويكلؤكم بعنايحَه وتدبيره وحكمته (خَوْفًا وَطَمَعًا)، أي خائفين من مغبة أعمالكم في الحياة (الدنيا)، ومن آثارها في اليوم (الآخر)، وطامعين في غفرانه ورحمته التي وسعت كل شيء رحمة وفضلا. فمعنى (خَوْفًا) أي خائفين من عذابه، و (طَمَعًا) أي طامعين في غفرانه - وإن الله تعالى يقرن رجاءه بخوفه، ورحمته بخوف عذابه.
قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠).
وقدم - سبحانه وتعالى - الخوف على الطمع؛ بأنه يجب على المؤمن أن يغلب الخوف على الرجاء؛ لأن من غلب الخوف على الرجاء أمن

واحترس، وسار على الصراط المستقيم آمنا، وإن غلب الطمع، ربما انساق وراءه، وإذا انساق ربما سار في غير الطريق السوي.
ولقد قرب الله تعالى رحمته لعباد، فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّه قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ).
المحسنون هم الذي أجادوا أعمالهم في الدنيا، وبلغوا بها الكمال الإنساني، وبالغوا في أداء واجبهم، وزادوا عليه وأطاعوا ربهم في كل ما أوجبه عليهم وألزمهم به.
ورحمة الله غفرانه (ذنوبهم)، والإنعام عليهم، وأن يكتب لهم الثواب بففمل منه وكرم، وقد قال تعالى في دعاء الأبرار:
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦).
وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ) فيها إشارة إلى أن الله تعالى يعطي رحمته لمن يستحقها بغير حساب، ومن غير تسويف، والمسافة بين الرحمة وطالبها قريبة إن قدم لها العمل الصالح وعدم الإفساد.
وهنا بحث لفظي، يقول الله تعالى: (قَرِيبٌ) على أنها خبر لرحمة، وهي مؤنث لفظي لحقته التاء، وكان مقتضى السياق اللغوي أن يقول " قريبة " بدل " قريب ".
خرج بعض النحاة ذلك على أن (رحمة) مؤنث مجازي، ولا يلزم في خبره التأنيث، بل يجوز فيه التذكير.
وبعضهم قال بتقدير مكانها، فقال السياق: " وإن رحمة الله مكانها قريب " أي أنها سهلة في الوصول إليهم؛ لأنه كلما قرب المكان كان الوصول إليها أسهل.

وخرج آخرون بأن الرحمة متضمنة معنى الثواب أو الغفران، وهو مُذكَّر.
وهذه وغيرها تخريجات نحاة ليستقيم إعرابهم، أما كلام الله فهو فوق طرائق إعرابها وهو سليم منزه عن أي عيب بياني.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
* * *
بين الله تعالى آياته في الكون كيف خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وبين - سبحانه وتعالى - وجوب الضراعة من بني الإنسان كما يسبح له كل ما في الوجود، وإن كنا لَا نفقه تسبيحهم، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، وفى هاتين الآيتين: يعدد - سبحانه - على الإنسان ما سخر له في الأرض، فقال عز من قائل: