آيات من القرآن الكريم

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ

الآخرة ومصيرهم الرهيب فيها ويندموا ولات ساعة مندم. وقد جاءت مطلقة لتكون مستمرة المدى والتلقين.
والآية [٥١] بخاصة احتوت تلقينا جليلا بتقبيح الذين يتخذون الدين هزؤا ولعبا ويغترون بما يكونون عليه من مال وقوة في الحياة فيسوقهم هذا إلى عدم المبالاة بالعواقب واقتراف الإثم والبغي والاستكبار وعدم الانصياع إلى دعوة الحق وكلمة الحق.
والآية [٥٢] وهي تقرر أن كتاب الله هو رحمة وهدى للمؤمنين تقرر ضمنا أن الاستكبار عن دعوة الله وجحودها إنما يأتيان من أناس خبثت نواياهم وساءت طواياهم، وتغلّب الهوى والعناد عليهم فأعميا بصائرهم، وأن هؤلاء هم الذين لا يرون في كتاب الله الهدى وطريق الحق، في حين أن الذين طابت سرائرهم ورغبوا في الحق وبرئوا من الهوى والعناد يؤمنون ويرون في كتاب الله رحمة وهدى. وفي هذا وذاك تنديد بالكافرين من جهة وتنويه بالمؤمنين من جهة وعزو الاهتداء والضلال لحسن النية وصدق الرغبة وخبث الطوية وتغلّب الهوى وكونهما مظهرا لذلك من جهة أخرى. وفي هذا ما فيه من التلقين المستمر المدى.
هذا، ولقد قال المفسرون في جملة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا إن الله لا يشذّ عنه شيء ولا يتّصف بالنسيان وإن المقصد أن الله يعاملهم كالمنسيّ أو يتركهم في العذاب لا يسمع لهم استغاثة ولا يتداركهم برحمة. ومع وجاهة هذا التخريج فيمكن أن يقال أيضا إن العبارة أسلوبية لمقابلة العمل بمثله مما تكرر كثيرا ومنه وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران:
٥٤].
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)

صفحة رقم 406

(١) يغشى الليل النهار: يغطي بالليل النهار ويدخله عليه.
(٢) يطلبه حثيثا: حثيثا بمعنى سريعا أو متواليا ويطلبه أي يجري وراءه ليدركه.
(٣) تضرعا: تذللا.
(٤) خفية: سرا وبدون إعلان.
(٥) المعتدين: هنا بمعنى المتجاوزين الحد.
(٦) أقلت: حملت.
(٧) نكدا: النكد العسر الممتنع عن إعطاء الخير.
الآيات استمرار للسياق السابق ومتصلة به على ما هو المتبادر وقد جاءت بعد بيان مصائر المؤمنين والكافرين في الآخرة لتخاطب الناس عودا على بدء وتلفت نظرهم إلى مظاهر ربوبية الله في الكون العظيم ومطلق تصرفه، وتذكرهم بنعمة الله، وتبشّر المحسنين الصالحين برحمته الواسعة، وتدلّل على استحقاقه وحده للعبودية والخضوع والدعاء وتبرهن على قدرته على إحياء الناس بعد الموت. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأسلوبها تقريري رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومع أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى السامعين فإنه عام التوجيه. وقد احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء في تعليمها آداب دعاء الله وعبادته تضرعا وخفية وخوفا وطمعا بدون إعلان ولا صخب، أم في نهيها

صفحة رقم 407

عن الفساد في الأرض، أم في تأميلها المحسنين الذين يقومون بواجباتهم، أم في التفكير في آلاء الله وعظمة كونه والاستشعار بعظيم قدرته ومطلق تصرفه، وتحرير النفس من كل ما عداه.
وسامعو القرآن كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما والمدبّر للأكوان والمتصرّف فيها على ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) وآية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) وآيات سورة المؤمنون هذه:
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) بحيث تستحكم الحجة على السامعين بما أرادته الآيات من التدليل على استحقاق الله وحده للخضوع والدعاء وقدرته على إحياء الناس بعد الموت.
والمتبادر أن تعبير وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها هو تعبير أسلوبي إذ الفساد ليس أصلا وإنما يكون طارئا ومستأنفا. والجملة بسبيل تشديد خطر البغي والفساد فإذا كان الفساد في أصله قبيحا محظورا فهو بعد الصلاح أشدّ قبحا وآكد خطرا لأنه هدم للصلاح القائم وإقامة الفساد مكانه.
ولعلّ الجملة تتضمن التنويه بالرسالة النبوية التي جاءت بالإصلاح بعد الفساد والتنديد بالذين يقفون منها موقف الهادم لها وإتاحة الاستمرار للفساد أو استئنافه.
وتبدأ بعد هذه الآيات سلسلة طويلة في قصص الأنبياء مع أقوامهم. وهكذا تكون هذه الآيات وبخاصة الأخيرة منها قد جاءت خاتمة قوية للفصل الطويل الذي ابتدأ من أول السورة.

صفحة رقم 408

تعليق على الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إلخ وما فيها من تلقين واستطراد إلى موضوع الدعاء في القرآن والحديث وما في ذلك من دلالة على إعارة الكتاب والسنّة لهذا الأمر من عناية ومدى هذه العناية
والأمر بالدعاء خفية قد تكرر في القرآن كما جاء في آية سورة الأعراف هذه أيضا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) وآية سورة الإسراء هذه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (١١٠).
وواضح أن هذا هو بسبيل التهذيب النفسي وتقرير كونه أدلّ على الإخلاص لله في الدعاء والعبادة وأبعد عن تهمة المظاهرة والرياء.
ولقد أورد ابن كثير حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال:
«رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائب. إن الذي تدعون سميع قريب». وروى الترمذي حديثا عن أبي أمامة قال: «قيل يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة». وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني شأن سائر الأمور.
استطراد إلى موضوع الدعاء لله ومداه
ونستطرد إلى ذكر الدعاء لله بصورة عامة فنقول إن في القرآن آيات كثيرة في الحثّ على الدعاء لله تعالى وفي كل ظرف وفي التنويه به، ووعد رباني بالاستجابة لمن يدعوه. وإيذان بأنه قريب إليه كما ترى في الآيات التالية:
١- وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: ١٨٦].

صفحة رقم 409

٢- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٢٨].
٣- إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الأنبياء: ٩٠].
٤- أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [النمل: ٦٢].
٥- تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: ١٦].
٦- فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غافر: ١٤].
٧- وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠].
حيث يبدو من هذه الأمثلة ما اقتضته حكمة التنزيل من إعارة العناية لهذا الأمر. وإذا لاحظنا أن الدعاء في الإنسان يكاد يكون فطريا لأنه لا يكاد يجد نفسه في مأزق أو ضيق أو كرب أو أمام صعوبة إلّا وسارع إلى دعاء الله، تبينت لنا تلك الحكمة حيث ينطوي فيها علاج روحي لكثير من مشاكل النفس والحياة. فإذا ما أفضى الإنسان المحزون والمكروب والذي يواجه المشاق والمصاعب إلى ربّه ما يعانيه وطلب منه العون فإنه يشعر بطمأنينة ونفحة روحية تنشله مما هو فيه أو تخفّف عنه وتبثّ فيه الأمل والرجاء إذا كان ذلك مترافقا مع الإيمان والاعتقاد بأن الله سامع له قريب إليه مجيب لدعائه. وهذا فضلا عما ينطوي في الدعاء لله من وسيلة إلى ذكر الله ثم في إثارة الشعور بتقوى الله بصالح الأعمال واجتناب السيئات. وفي هذا ما فيه من وسيلة إلى تقويم أخلاق المسلم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في هذا الموضوع منها حديث رواه الترمذي

صفحة رقم 410

والإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» «١». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» «٢». وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«الدعاء مخّ العبادة» «٣». وحديث رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر» «٤». وعن ابن عمر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا يعطى أحبّ إليه من أن يسأل العافية» «٥». وعن ابن عمر أيضا قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء» «٦». وعن سلمان قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ولا يزيد في العمر إلّا البرّ» «٧». وعن عبد الله قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم سلوا الله من فضله فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» «٨».
وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقلنّ أحدكم اللهمّ اغفر لي إن شئت اللهمّ ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة فإنّه لا مكره له» «٩». وحديث رواه البخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول دعوت فلم يستجب لي» «١٠». وحديث رواه

(١) التاج ج ٥ ص ١٠٠.
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه ص ١٠٠- ١٠١.
(٥) انظر المصدر نفسه.
(٦) انظر المصدر نفسه.
(٧) انظر المصدر نفسه.
(٨) انظر المصدر نفسه.
(٩) انظر المصدر نفسه ص ١٠٣- ١٠٤.
(١٠) انظر المصدر نفسه.

صفحة رقم 411

الترمذي والحاكم عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» «١». وحديث رواه الترمذي ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك» «٢».
وينطوي في الأحاديث تلقينات نبوية متساوقة مع التلقين القرآني وتأديب نبوي في صدد الدعاء بوجه عام.
وهناك صيغ كثيرة في الدعاء في مختلف الظروف مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نكتفي بواحدة منها وصفت بأنها من جوامع الدعاء رواها الثلاثة عن أنس قال: «كان أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» ».
تعليق على الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
إن جملة خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تأتي هنا لثاني مرة. وقد جاءت للمرة الأولى في سورة (ق) التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار.
وكلمة الْعَرْشِ وردت في السور التي سبق تفسيرها أكثر من مرة. وعلّقنا على مدى الكلمة في سورة التكوير بما يغني عن التكرار كذلك.
أما جملة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فإنها تأتي هنا للمرة الأولى. وقد تكررت

(١) التاج ج ٥ ص ١٠٣- ١٠٤.
(٢) التاج ج ٤ ص ١٦٣.
(٣) التاج ج ٥ ص ١٠٨. وانظر الصيغ الأخرى في الصفحات ١٠٣ وما بعدها.

صفحة رقم 412

بعد ذلك. وقد تعددت الأقوال في مداها فممّا قاله البغوي أن المعتزلة أوّلت الاستواء بالاستيلاء وأن أهل السنة قالوا إن الاستواء على العرش سنّة لله تعالى بلا كيف ويجب على المسلم الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عزّ وجلّ. وروى أن رجلا سأل الإمام مالك بن أنس عن الجملة فأطرق رأسه مليا وعلاه الرجفاء ثم قال له الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
وما أظنك إلّا ضالا ثم أمر به فأخرج. ومما قاله ابن كثير إن للناس في هذا الأمر مقالات كثيرة جدا. وإن خير مسلك هو مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرار الجملة كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل. وأن الظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وإن بعض الأئمة ومنهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قالوا من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه، ومن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عنه النقائص فقد سلك سبيل الهدى. وهذا يفيد أن من المقالات ما كان يذهب أصحابه إلى أخذ العبارة بظاهرها بدون تأويل ولو أدّى ذلك إلى اعتبار الله تعالى وعرشه مادة وكون الله تعالى يجلس على عرشه كجلوس الملوك على الأسرة والعروش المادية. وروى الطبرسي عن الحسن أن استوى بمعنى استقرّ ملكه واستقام بعد خلقه السموات والأرض. وقال إن ذلك هو على المتعارف من كلام العرب حيث يقولون استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته وشلّ عرشه إذا اختلّت. ومما قاله السيد رشيد رضا إن حقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء أو اعتداله. ويستعمل على الأكثر في المجاز فيقال استوى على الدابة وعلى السرير وعلى الفراش ويكون بمعنى التملّك. ثم استطرد إلى القول إن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الله على العرش على علمهم بتنزّهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق إذ كانوا يفهمون أن استواءه على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات

صفحة رقم 413

والأرض له وانفراده بتدبيره. وإن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق. وفي تفسير القاسمي فصل طويل جدا بلغت صفحاته خمسا وخمسين ولعلّه أطول فصل عقده على أي موضوع. وفي هذا الفصل أقوال ومذاهب مختلف الجماعات والفرق الإسلامية من أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح والمعتزلة والمشبّهة والظاهرية. ومناقشات وردود على هؤلاء خاصة منه ومن علماء وأئمة أهل السنّة والجماعة والسلف الصالح الذين يلتزم أقوالهم التي لخصها ابن كثير والبغوي ورشيد رضا وأوردناها قبل قليل بسبيل تفنيد ما يمكن أن تؤدي إليه أقوالهم من مناقضة لما ينبغي أن يكون لله من صفات مبرأة من شوائب الجسمانية والمشابهة لخلقه أو الحلول أو التحديد في جهة ما. واهتم فيما اهتم لتفنيد تفسير المعتزلة لكلمة اسْتَوى بمعنى استولى من حيث أن ذلك يؤدي إلى معنى استيلاء الله على عرشه بعد أن لم يكن مستوليا عليه مما هو مناف لأزليته وأزلية صفاته التي منها ملك كل شيء مع أن المتبادر لنا أن مقصودهم هو نفي الاستواء المادي على العرش المادي وصرف الكلمة إلى معنى مجازي. ولا يعقل أن يكونوا أرادوا القول إن الله استولى على العرش بعد أن لم يكن مستوليا عليه بالمعنى الحرفي. وإن من الممكن أن لا تكون ثُمَّ في مقام الترتيب الزمني ويمكن أن تكون في مقام العطف فيكون معنى الجملة إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وإنه استوى على العرش.
ويبدو من الإمعان في ما نقلناه عن البغوي وابن كثير والطبرسي ورشيد رضا واتجاه جمال القاسمي أنهم متساوقون فيما قالوه واستندوا إليه وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح وأهل السنّة والجماعة. وملخّصه أن من الواجب الإيمان بما جاء في القرآن والتفويض لعلم الله في ما أراده من التعبير مع تنزيهه عن الحدود والحلول والجسمانية والمشابهة. ونحن نرى في هذا الوجاهة والسداد. وننوّه بخاصة بوجاهة ما ذكره رشيد رضا من أن أحدا من أصحاب رسول الله لم يشتبه في معنى استواء الربّ تعالى على العرش على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر

صفحة رقم 414

وغيرهم من الخلق وأنهم كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السموات والأرض له وانفراده هو بتدبيره. وإذا كان من شيء يصحّ قوله بالإضافة إلى هو فهو وجوب ملاحظة كون العبارة القرآنية هنا وفي أي مكان آخر في القرآن قد جاءت في معرض التدليل على عظمة الله وشمول قدرته وملكه وتقرير كونه الخالق المدبّر المتصرّف الوحيد فيه واستحقاقه بسبب ذلك وحده للعبادة والخضوع. وإن ما شغله هذا الموضوع من حيز ليس بسبب العبارة ولكن بسبب ما لمح من مساسها بالصفات الإلهية التي كانت من أهم أسباب تعدد المذاهب الكلامية في الإسلام تأثرا بالفلسفة اليونانية التي أخذت تنتشر في القرن الثاني وبعده وأساليبها وبما كان من انقسامات وخلافات سياسية على ما ألمعنا إليه في تعليقنا على موضوع القدر في سياق تفسير سورة (ق) وعلى ما يدلّ عليه عدم انشغال أصحاب رسول الله بهذه المسألة وأمثالها. والله تعالى أعلم.
تعليق على دلالة الآية وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً
وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره أن الآية [٥٨] تنطوي على مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة التي تؤتي ثمرا طيبا والكافر بالأرض السبخة الرديئة التي يكون ثمرها رديئا. والاستنباط سديد وجيه. وفي الآية على ضوئه تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا لدعوة الله ورغبوا في الحق والهدى وتنديد بالكافرين الذين ناوأوها وتصامموا عن صوت الحق وتعاموا عن النور والهدى عنادا ومكابرة. وروح الآية تتحمل تعديلا للتشبيه وهو تشبيه ذوي النفوس الطيبة بالأرض الطيبة وذوي النفوس الخبيثة بالأرض الخبيثة. وبهذا التعديل يمكن تعليل كل موقف لكل فئة وفرد من الهدى والحق إذا ظهرت معالمهما واضحة في كل وقت ومكان وعلى كل مدى ويكون المثل القرآني به من الحكم العامة المستمرة المدى. وهذا ما أردناه حينما نعلل آيات الضلال والهدى والكفر والإيمان بأن الناس الذين يصرون على كفرهم وعنادهم وضلالهم رغم ظهور معالم

صفحة رقم 415
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية