
الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه». وروى أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: «يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ائتوه فصلّوا فيه. فإن لم تأتوه وتصلّوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله». وروى النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عزّ وجلّ ثلاثا حكما يصادف حكمه- أي يوافق حكم الله- فأوتيه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه. وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألّا يأتيه أحد لا ينهزه إلّا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه».
والمقصود من كلمة بيت المقدس الواردة في الحديثين الأخيرين هو مسجد بيت المقدس كما هو المتبادر وهو المقصود من كلمة (المسجد الأقصى) الواردة في حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة. وقد وردت هذه الكلمة في آية سورة الإسراء الأولى أيضا وهي: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ والمقصود من كلمة الْأَقْصَى هو البعيد بعدا شاسعا. ولقد كان هذا المسجد حين صدور الأحاديث وحين نزول الآية خرابا ليس في محله إلّا الأنقاض بحيث تكون التسمية القرآنية والنبوية على اعتبار ما كان وبحيث يحمل حديث أبي هريرة ثم حديث ميمونة على أن الله عزّ وجلّ كشف لنبيه أن المسلمين سيقيمون محل هذه الأنقاض مسجدا يسمونه المسجد الأقصى كما سمّاه القرآن ويكون مما تشدّ الرحال إليه مع المسجد الحرام ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والله تعالى أعلم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)

(١) زينتكم: ما تبدون فيه متجملين محتشمين.
(٢) زينة الله: بمعنى ما يسّره الله في الدنيا من أسباب التجمّل والزينة.
(٣) الفواحش: كل ما عظم من الآثام.
(٤) ما ظهر منها وما بطن: ما كان علنا أو سرا.
(٥) الإثم: الذنب أو المعصية إطلاقا.
(٦) البغي: الظلم والعدوان.
(٧) ما لم ينزل به سلطانا: ما لا يستند إلى برهان وتأييد من الله.
في الآيات هتاف ببني آدم بوجوب الاحتشام عند كل صلاة وعبادة وأماكنهما، وبأن يكون أكلهم وشربهم في حدود الاعتدال وفي غير إسراف لأن الله لا يحب المسرفين. وأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يسأل في معرض الاستنكار عمن حرم ما يسّر الله في الدنيا من أسباب التجمل والزينة وطيبات الرزق. وبأن يجيب بأن ذلك مباح للذين آمنوا في الحياة الدنيا وبأن مثيله خالص لهم في الآخرة ثم بأن يقرر بأن الله إنما حرم الأفعال الفاحشة بالسرّ والعلن والقلب والجوارح والأعمال الآثمة المحرمة والعدوان على الناس بدون حق والشرك بالله دون ما سند من الله والافتراء على الله بدون علم وبينة.
تعليق على تلقين الآيات الثلاث يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ وما بعدها
روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أن الجملة الأولى من الآية الأولى هي في صدد منع الطواف في حالة العري. وإيجاب التستر والاحتشام عند مباشرته.
وأن جملة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ هي بسبيل استنكار هذه العادة ونسبتها إلى الله تعالى. وأوردوا في ذلك حديثا رواه مسلم عن ابن عباس جاء فيه:

«كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول:
فنزلت خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» «١» ونحن نتوقف في كون ذلك سببا لنزول الآية. وكل ما يمكن أن يكون هو أن ابن عباس أراد تفسيرها وبيان مداها.اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه
لأن مقتضى الحديث أن تكون نزلت لحدتها في حين أنها منسجمة مع ما قبلها وما بعدها انسجاما وثيقا. ويتبادر لنا أن الآيات تضمنت تعقيبا على الآيات السابقة وهتافا للناس على النحو الذي شرحناه آنفا. والله أعلم.
ومقتضى حديث ابن عباس أن المرأة فقط هي التي كانت تطوف عريانة غير أن هناك روايات أوردها المفسرون في سياق تفسير الآية [٣] من سورة التوبة تفيد أن ذلك كان عادة عامة يمارسها الرجال والنساء معا. وهناك حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في الحجّة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلّى الله عليه وسلّم بعلي يؤذن ببراءة فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النّحر ببراءة» «٢». وهناك أحاديث أخرى في هذا الصدد سوف نوردها ونعلّق عليها في سياق تفسير سورة التوبة. ومما رواه المفسرون «٣» في سياق تفسير آيات الأعراف التي نحن في صددها في صدد عادة الطواف بالعري أن العرب كانوا قبل الإسلام يرون من واجبهم طرح ثيابهم إذا طافوا بها لئلا يقترفوا ذنوبا وهي عليهم بعد أن تطهّرت. فكانوا يستأجرون مآزر من سدنة الكعبة تسمى المآزر الأحمسية نسبة إلى كلمة الحمس التي كانت السدنة يتسمون بها ومن لا يجد أو لم يستطع طاف في حالة العري رجالا كانوا أم نساء ضنا بثيابهم أن يرموها ويحرموا
(٢) المصدر نفسه ص ١١٤.
(٣) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٢٥

منها. وقد يصحّ أن يزاد على هذا أنهم ربما كانوا يتحرّجون من الطواف وعليهم ثيابهم التي قد يكونون اقترفوا ذنوبا وهي عليهم فكانوا يخلعونها قبل الطواف ويضعون المآزر أو يطوفون في حالة العري.
أحاديث في ستر العورة
ومدى جملة خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أوسع من كونها خاصة بالطواف في حالة العري كما هو ملموح من نصّها. بحيث يصحّ القول إنها تتضمن أمرا ربانيا بالاحتشام عند كل صلاة الله عزّ وجلّ وعند دخول كل مسجد من مساجد الله للعبادة. وهو ما يعبّر عنه في الفقه الإسلامي بتعبير (ستر العورة) ويعتبر شرطا من شروط الصلاة.
ولقد أثرت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عديدة في مدى هذا الأمر. منها حديث رواه الخمسة إلّا الترمذي عن أبي هريرة قال: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلّكم يجد ثوبين» «١». وحديث رواه الخمسة إلّا الترمذي أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء» «٢». والحديث الأول يجيز للمسلم الصلاة بثوب واحد والثاني يجعل الإجازة رهنا بأن يكون الثوب ساترا. وروى الشيخان عن جابر قال:
«رأيت رسول الله يصلّي في ثوب واحد متوشّحا به» «٣». وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الفخذ عورة» «٤» وحديث رواه أبو داود والحاكم والبزار عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت» «٥». وحديث رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي عن عمرو بن
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.

شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا زوّج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة» »
. وروى أبو داود حديثا جاء فيه:
«سئلت أمّ سلمة ماذا تصلّي فيه المرأة من الثياب، فقالت: تصلّي في الخمار والدرع السابغ الذي يغيّب ظهور قدميها. وقالت سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتصلّي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار، قال إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها» «٢». وروى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار» «٣». وروى الخمسة إلّا أبا داود حديثا جاء فيه: «سئل أن أكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في نعليه؟ قال: نعم» «٤». وأحاديث ابن عباس وعلي وعمرو بن شعيب هي في صدد حدود ما يحسب عورة من الرجل يجب عليه ستره ولا يجوز النظر إليه وبخاصة في الصلاة كما هو المتبادر. أما المرأة فالمتبادر من حديثي أم سلمة وعائشة أنها يجب ستر جميع جسدها بما في ذلك رأسها بخاصة للصلاة. مع التنبيه على أنه من المتفق عليه عند الفقهاء أن وجه المرأة ويديها ليست عورة فيجوز كشفها في الصلاة وفي غير الصلاة. وهناك حديث يرويه أصحاب السنن وأحمد عن ابن عمر في صورة لباس المرأة في الإحرام نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه المرأة عن القفازين والنقاب مما فيه تأييد لذلك أو سند له، ونصّه: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى النساء في إحرامهن عن القفّازين والنقاب وما مسّ الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثياب معصفرا أو خزّا أو حليّا أو سراويل أو قميصا أو خفّا» «٥» والمؤولون يرون سندا لذلك في جملة في آية سورة النور وهي:
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها [٣١] أي ما كان إظهاره سائغا لا حرج فيه وهو الوجه واليدان. ولقد روى الطبري عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) التاج ج ٢ ص ١٠٦.

حركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلّا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى». وروى حديثا آخر جاء فيه:
«إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف». والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الخمسة ولكنهما متسقان مع ما ورد فيها ومع ما ذكره المؤولون في تأويل جملة آية سورة النور. وسنزيد هذا الأمر بخاصة شرحا في سياق تفسير هذه الآية.
وهكذا تكون الآيات الثلاث بإيجابها الاحتشام بين يديّ الله وإباحتها التجمّل والزينة وطيبات الرزق وتحريمها ما هو جماع كل شرّ في الدين والدنيا من أقوى الآيات المحكمة وأروعها التي تظلّ محتفظة بروعتها وقوتها ونفوذها وفعاليتها في كل ظرف ومكان مهما طرأ على البشرية من تطور لاتساقها التام المستمر مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية. وفي هذا من الإعجاز القرآني ما فيه.
هذا، وفي الآية [٣٢] التفات لطيف نحو المسلمين بخاصة بسبيل تطمينهم وحثّهم على الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا وطيبات رزقها. فلهم أن يستمتعوا بذلك مع غيرهم في الدنيا دون أن ينقص هذا من نصيبهم من مثله في الآخرة الذي يكون لهم فيها خالصا. وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل لا سيما إذا لوحظ أن الاستمتاع بزينة الحياة وطيبات الرزق يستلزم أن يسعى المسلمون في مناكب الأرض كما أمرهم الله في آية سورة الملك هذه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) وأن يستعدوا بكل وسائل العلم والفن والعمل للنجاح في سعيهم.
وننبه أولا: إلى قيد الطَّيِّباتِ حيث ينطوي في هذا منع تناول شيء من مأكل ومشرب وملبس لا يتّصف بصفة الطيب الحلال أو يكون فيه شائبة من شوائب الخبث والحرام.
ولقد ورد في القرآن آيات عديدة أخرى فيها توضيح أو توكيد لذلك أو نهي عن تحريم الطيبات كما ترى في الآيات التالية:

١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: ١٧٢].
٢- يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: ٤].
٣- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: ٨٧- ٨٨].
٤- قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: ١٤٥].
٥- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: ٥١].
وفي سورة الأعراف آية مهمة في هذا الباب حيث تجعل حلّ الطيبات من أصول الرسالة المحمدية وهي: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ... [١٥٧].
ويلفت النظر إلى آية الأنعام [١٤٥] حيث تضمنت تعليلا للتحريم وهو كون الثلاثة الأولى نجسة أو خبيثة وهو ما عبرّت عنه الآية بكلمة رِجْسٌ وكون الرابعة شركا بالله وهو ما عبرت عنه بكلمة فسق أهلّ لغير الله به وفي هذا تفسير لمعنى الطيب الحلال وكلمة الخبائث العامة التي جاءت في آية الأعراف [١٥٧].

وثانيا: إلى النهي عن الإسراف. وبيان كون الله عزّ وجلّ لا يحبّ المسرفين في سياق الأمر بالاستمتاع بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق والأكل والشرب حيث انطوى في ذلك حدّ فيه كل الحق والحكمة لمنع المسلم من تجاوزه والاستغراق في شهوات النفس والإسراف في الأكل والشرب والزينة ولو كان من الطيب الحلال. وينطوي في هذا فيما ينطوي فيه من الحكم الجليلة منع التفاوت العظيم في المعيشة بين مختلف الفئات مهما اختلفوا في حيازة الثروة والأسباب الميسّرة للاستمتاع بطيبات الحياة وزينتها. والحيلولة بذلك دون فوران أحقاد الطبقات المعسرة على الطبقات الموسرة. وتوجيه ما يمكن أن يتوفر من جرّاء الاعتدال وعدم الإسراف إلى الفئات المحرومة والمعسرة والمشاريع التي فيها برّ وخير ومنفعة للمسلمين. وحياطة المسلمين من صفة التبذير والسّفه. ولقد نعتت إحدى آيات سورة الإسراء المبذرين بأنهم إخوان الشياطين في سياق النهي عن الإسراف والأمر بالاعتدال.
وثالثا: إلى صيغة الحصر للمحرّمات في الآية الثالثة حيث يفيد أن الله تعالى إنما حرّم ما فيه انحراف عن وحدة الله وما فيه بغي وظلم وعدوان على الغير. وما فيه معصية لله تعالى بأي شكل ومدى وحالة. وسواء أكان ذلك من الفواحش الكبيرة أم من الذنوب العادية وسواء أكان ذلك في السرّ أم في العلن وظاهرا لا يمكن المماراة فيه أم باطنا يمكن التأوّل فيه ولكن مقترفه يعرف أنه معصية. وإن ما عدا ذلك هو مباح للمسلمين في نطاق التوجيه الذي تضمنته الآيتان الأولى والثانية من التزام الطيب الحلال وعدم الإسراف.
وفي كل ذلك ما فيه من شمول وتأديب وروعة وجلال ثم من مظهر حكمة ترشح الشريعة الإسلامية للشمول والخلود الذي انطوى في آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [٢٨] لأن فيه إجماع ما فيه الخير والشر والصلاح والفساد في الدين والدنيا الذي يتسّق في كل ظرف ومكان مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية.