آيات من القرآن الكريم

۞ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ

الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١) مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً حقيرا مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فتبقون محبوسين في سجن الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.
وَيا آدَمُ اسْكُنْ اي وقلنا كما وقع في سورة البقرة فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه: قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا على ما ذهب إليه غير واحد من المحققين، وإنما لم يعطفوه على ما بعد

(١) الى هنا ربع القرآن ولله الحمد اه منه.

صفحة رقم 338

قالَ أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم، ولا على ما بعد قُلْنا لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم.
وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد قالَ وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به، وتخصيص الخطاب بآدم عليه السلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به. واسْكُنْ من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه: أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى:
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحا، والمعنى: فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة، ولم يذكر رَغَداً [البقرة: ٣٥، ٥٨] هنا ثقة بما ذكر هناك.
وقوله سبحانه: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرىء «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت. قال ابن جني: ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر: ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى اليائين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي.
فَتَكُونا أي فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم على العطف على تَقْرَبا والنصب على أنه جواب النهي فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي: وسوسة، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة، وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال: رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي. وقال غيره: يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة.
لِيُبْدِيَ لَهُما أي ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه. وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة، ويكون هذا مبينا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح. قيل:
وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.
ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وجمع السوءات على حد صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: ٤] واعتبار الاجزاء بعيد، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته: وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه، ووُورِيَ بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة.
وقرأ عبد الله «أورى» بالهمزة لأن القاعدة إذ اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظيرا متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة. وقرىء «سوأتهما» بالإفراد والهمزة على الأصل و «سوتهما» بإبدال الهمزة واوا

صفحة رقم 339

وإدغام الواو في الواو، وقرىء «سواتهما» بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و «سوأتهما» بالطرح وقلب الهمزة واوا الإدغام وَقالَ عطف على وسوس بطريق البيان ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة.
وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير مَلَكَيْنِ بكسر اللام. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: ١٢٠] واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث إن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه، وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلولا أنه أفضل لم يرتكبه، وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه، وأيضا قد يقال: إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل، واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة، ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له: إن آدم وحواء هل صدقا قول الشيطان: معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين، وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ.
وادعى بعضهم أن المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر. وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال: إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك، وهو كما ترى وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أقسم لهما، وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه، وقيل: المفاعلة على بابها، والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقه فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول.
وتعقب بأن هذا إنما يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال:
سمي قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى [الأعراف: ١٤٢] أنه سمي التزام موسى عليه السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعادا فأسند التعبير بالمفاعلة، وقيل: قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين؟ وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة. وعلى هذا فيكون- كما قال ابن المنير- في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب، وقيل: إنه إلى التغليب أقرب، وقيل: إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما: إني لكما لمن الناصحين فَدَلَّاهُما أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره. وعن الأزهري أن معناه أطمعهما. وأصله من تدلية العطشان شيئا في البئر فلا يجد ما يشفي غليله. وقيل: هو من الدالة وهي الجرأة في كما قال:

صفحة رقم 340

فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء بِغُرُورٍ أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به، فالباء للمصاحبة أو الملابسة. والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول. وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا.
وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه.
وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا. وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال: ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية، وقال القطب: يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله: ما نَهاكُما إلخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه وَقاسَمَهُما فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى:
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وجعل العتاب الآتي عى ترك التحفظ فتدبر فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها أكلا يسيرا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا وَطَفِقا أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال يَخْصِفانِ أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بإلصاق بعضها ببعض. وقيل أصله الضم والجمع عَلَيْهِما أي على سوآتها أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر.
وقيل: الضمير عائد على «سوءاتهما».
مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة. وقيل: الموز وقرأ الزهري يَخْصِفانِ من أخصف، وأصله خصف إلا أنه- كما قال الجاربردي- نقل إلى أخصف للتعدية، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير. وجوز بعضهم كون خصف واخصف بمعنى. وقرأ الحسن «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ يعقوب بفتحها وقرىء «يخصّفان» من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق وَناداهُما رَبُّهُما بطريق العتاب والتوبيخ أَلَمْ أَنْهَكُما تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا: ألم أنهكما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها، والتثنية لتثنية المخاطب.
وَأَقُلْ لَكُما عطف على «أنهكما» أي ألم أقل لكما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة، وهذا- على ما قيل: عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي. ولم يحك هذا القول هاهنا، وقد حكي في سورة بقوله سبحانه: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: ١١٧] الآية ولَكُما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه.
واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي. والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بالمعصية، وقيل: نقصناها حظها

صفحة رقم 341

بالتعرض للإخراج من الجنة، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر.
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذلك بعدم العقاب عليه وَتَرْحَمْنا بالرضا علينا، وقيل: المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قبل. واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى. وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيئات وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه. وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة، وكان قبل نبوة آدم عليه السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة، والكلام في هذه المسألة مشهور قالَ استئناف كما مر مرارا اهْبِطُوا المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما السلام وإبليس عليه اللعنة، وكرر الأمر له تبعا لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: ٥١] وقيل: إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس.
واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم، وقيل: إنه لهما فقط لقوله سبحانه: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: ١٢٣] والقصة واحدة، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال: إن مختار الفراء هو هذا، وقيل: إنه لهما ولإبليس والحية. واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له: أي شيء تريد يا آدم؟ قال: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له: في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى هاهنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة، ومثله ما
روي عن محمد بن قيس قال: إنه عليه السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال: أطعمتني حواء فقال سبحانه: يا حواء لم أطعمتيه؟ قالت أمرتني الحية فقال للحية: لم أمرتها؟
قالت: أمرني إبليس فقال الله تعالى: أما أنت يا حواء فلأدمينّك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك. وأما أنت يا إبليس فملعون.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال من فاعل «اهبطوا» وهي حال مقارنة أو مقدرة، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا؟ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما السلام فقد قيل: إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفى بذكرهما عنهم، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم.
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان. وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه. ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف

صفحة رقم 342

والإيصال، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه: وَمَتاعٌ أي بلغة إِلى حِينٍ يريد به وقت الموت، وقيل: القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال: معنى «لكم» لجنسكم ولمجموعكم، والظرف قيل: متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدرا، وقيل: إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع.
قالَ أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله. وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ عند البعث يوم القيامة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل يا بَنِي آدَمَ خطاب للناس كافة. واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام.
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول: رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو، وقيل: المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ. وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز. ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد.
وقوله سبحانه: يُوارِي أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات. وعن الجبائي أن الكلام على حقيقة مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا. نعم
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أهبط آدم وحواء عليهما السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبرائيل عليه السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه.
وجاء في خبر آخر أنه عليه السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته.
وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان.
وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري سَوْآتِكُمْ أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روي غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية، وقيل: إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام، ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم.
وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى وَرِيشاً أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له. وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة. ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره.
أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش. وتفسير الريش

صفحة رقم 343

بالزينة مروي عن ابن زيد. وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر. وعن ابن عباس، ومجاهد، والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش، وقال الطبرسي: إنه جميع ما ويحتاج إليه.
وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه «ورياشا» وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب.
وَلِباسُ التَّقْوى أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير. أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة. والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي. فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة، ورفعه بالابتداء وخبره جملة ذلِكَ خَيْرٌ والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير.
وجوز أن يكون الخبر خَيْرٌ وذلِكَ صفة لباس، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما. واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه. ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل: إن «ذلك» بدل أو بيان لا نعت. وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل: إنه أنقص من ذي اللام، وقيل: إنهما في مرتبة واحدة، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير. وقرىء «ولباس» التقوى بالنصب عطفا على «لباسا» قال بعض المحققين: وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر لِباسُ التَّقْوى بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة، وذكر على القراءة المشهورة أن «ذلك» إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل- لجين الماء- وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل.
ذلِكَ أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح يا بَنِي آدَمَ تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرىء «يفتننكم» بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة، وقرىء «يفتنكم» بغير توكيد، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه وكذا نسبه النزع إليه في قوله سبحانه. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما والجملة حال من أَبَوَيْكُمْ أو من فاعل أَخْرَجَ ولفظ المضارع- على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقيا.
وقوله جل شأنه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بأن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف، والضمير في إِنَّهُ للشيطان.
وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في يَراكُمْ وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا

صفحة رقم 344

يصلح للتأكيد. وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ومِنَ لابتداء الغاية وحَيْثُ ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة لا تَرَوْنَهُمْ في محل جر بالإضافة: وعن أبي إسحاق أن حَيْثُ موصولة وما بعد صلة لها. ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة. والمراد بهم هنا جنوده من الجن. وقرأ اليزيدي «وقبيله» بالنصب وهو عطف على اسم إن، ويتعين كون الضمير للشيطان، ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع.
والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون.
ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لمقدّمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول- كما قال البعض- على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف. وفيه دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشىء من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيته صلّى الله عليه وسلّم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة. وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلّى الله عليه وسلّم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته. ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان. واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة. وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الأنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم، بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة. وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة. على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر.
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة. وقوله سبحانه: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب. وجوز عطفها على الصلة. والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح. والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية. والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك.

صفحة رقم 345

وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية- على ما قاله الطبرسي- حذف، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالُوا جواب للناهين وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها محتجين بأمرين: تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه. وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير أَمَرَنا كما قيل لهم ولآبائهم. وحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف، وقال الإمام: لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه، وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه، وقيل: إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم؟ قالوا وجدنا آباءنا فقيل: ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا: الله أمرنا بها والكلام حينئذ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا وقيل: لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا.
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تمام القول المأمور به، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر، وقيل: المراد بالعلم ما يشمل الظن قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها والقسط على ما قال غير واحد العدل، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.
وقال الراغب: هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. ويقال: القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والأقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال: قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل. وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فإن كان إلى جهة الحق فعدل. ومنه قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: ٤٢، الحجرات: ٩، الممتحنة: ٨] وإن كان إلى جهة الباطل فجور، ومنه قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥] والمراد به هنا- على ما نقل عن أبي مسلم- جميع الطاعات والقرب.
وروي عن ابن عباس، والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله، ومجاهد، والسدي، وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله، والسجود مجاز عن الصلاة. وقال غير واحد: المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة، والأمر على القولين للوجوب.

صفحة رقم 346

واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا للندب. والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد. ومثله ما قيل: إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند آخرين. والواو للعطف وما بعده قيل:
معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا. والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، وقال الجرجاني: إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى. وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية.
وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره. وأَقِيمُوا مقول له. وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا وَادْعُوهُ أي اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له.
والدين بالمعنى اللغوي. وقيل: إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين كَما بَدَأَكُمْ أي أنشأكم ابتداء تَعُودُونَ إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله. وقال الزجاج: إنه متصل بقوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ولا يخفى بعده. ولم يقل سبحانه: يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: ٢٧] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء. وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقال قتادة: المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: ٥٥] وقيل: المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة.
وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة. ويؤيد ذلك ما
رواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا الكتاب (١) من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل (٢) على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال أي أشار- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديه فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير».
وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى: كما كتب عليكم تكونون. وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: ٢] وعليه يكون قوله سبحانه: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بيانا وتفصيلا لذلك، ونظيره قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٩٥] بعد قوله عز شأنه: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» قيل وهو الأنسب بالسياق.

(١) الظاهر ان هذا صادر عن طريق التمثيل اه منه.
(٢) هو من قولهم: أجمل الحساب إذا تم ورد من التفصيل الى الجملة فاثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته وقوله: «فرغ ربكم» فذلكة الكلام ونتيجته.

صفحة رقم 347

وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال: إنه تعالى قدم في قوله سبحانه: «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول هَدى للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول: إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.
وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا على هذا تعليل لقوله سبحانه: «وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرىء «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا- الحق أحق بالاتباع- مع القائل: إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون: إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه وَفَرِيقاً حَقَّ خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.
واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير تَعُودُونَ بتقدير قد أو مستأنفتان، وجوز نصب فَرِيقاً الأول وفَرِيقاً الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث- لحق- للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه: «ضلوا» وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.
ولعل الكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب

صفحة رقم 348

يطوفون بالبيت عراة حتى كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول:

أظن الحلم دل على قومي وقد يستجهل الرجل الحليم
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله تعالى هذه الآية: وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه،
وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأحب أن ألبس أجمل ثيابي،
ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب، وقيل: إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل: تمشطوا عند كل صلاة، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر. ومثل ذلك ما
أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خذوا زينة الصلاة قالوا: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصّلوا فيها».
وأخرج ابن عساكر. وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في قوله سبحانه: خُذُوا زِينَتَكُمْ إلخ «صلوا في نعالكم»
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مما طاب لكم.
قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله من أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية،
ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقيل: المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين،
فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت»
وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت: «رآني النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف».
وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع إليه سوى الشهوة، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا، وروي ذلك عن عكرمة، وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل:
نصحته نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبس ما تشتهيه الناس
فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي

صفحة رقم 349
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية