
نموذج شعري للتكرير:
ويحسن بنا هنا أن نورد الآن نموذجا شعريا تعلق فيه الشاعر بأذيال هذا السر الخفي، وهو قول البحتري من قصيدة يمدح بها المتوكل على الله، ويذكر حديث الصلح بين أبناء العمومة والخئولة من بني تغلب، منها قوله:
رفعت بضبعي تغلب بنة وائل | وقد يئست أن يستقلّ صريعها |
فكنت أمين الله مولى حياتها | ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها |
تألّفتهم من بعد ما شرّدت بهم | حفائظ أخلاق بطيء رجوعها |
فأبصر غاويها المحجّة فاهتدى | وأقصر غاليها ودانى شسوعها |
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) صفحة رقم 321

اللغة:
(وَقاسَمَهُما) : أقسم لهما، والمفاعلة هنا ليست على بابها بل للمبالغة، ويجوز أن تبقى على باب المفاعلة كما قرر الزمخشري، كأنه قال أقسم لكما أني لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله أنك لمن الناصحين؟ فجعل ذلك مقاسمة بينهم.
(فَدَلَّاهُما) التدلية والإدلاء: إرسال الشيء من الأعلى الى الأسفل. وقال الأزهري: وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا مطمع فيه، ولا فائدة منه. قال الفرزدق:
هما دلّتاني من ثمانين قامة | كما انقض باز أقتم الريش كاسره |

السباع، ولم يزل يطلب غرّته حتى صادفها، وأصاب منه غرّة فبطش به. وما غرّك به؟ كيف اجترأت عليه. و «ما غرّك بربك الكريم» ؟
وأنا غريرك من هذا الأمر: أي إن سألتني على غرّة أجبك به، لاستحكام علمي بحقيقته. وهو على غرارة: أي على خطر، وقال النمر بن تولب:
تصابى وأمسى علاه الكبر | وأمسى لجمرة حبل غرر |
(طَفِقا) : من أفعال الشروع، وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد.
(يَخْصِفانِ) : في المختار: «خصف النعل خصفا: خرزها.
وقوله تعالى: «وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» : أي يلزقان بعضه ببعض ليسترا به عورتهما». وفي المصباح: «خصف الرجل نعله خصفا من باب ضرب فهو خصّاف، وهو فيه كرقع الثوب».
الإعراب:
(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الواو استئنافية، وقاسمهما فعل وفاعل مستتر، والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان صفحة رقم 323

دالان على التثنية، والجملة مستأنفة، وجملة إن وما في حيزها مفسرة، لما تنطوي عليه المقاسمة، وإن واسمها، ولكما جار ومجرور متعلقان بالناصحين، ونصح فعل يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، وقال الفراء: «العرب لا تكاد تقول نصحتك، وإنما يقولون: نصحت لك، وأنصح لك، وقد يجوز نصحتك». واللام هي المزحلقة، ومن الناصحين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) الفاء عاطفة، ودلاهما فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وبغرور جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي مصاحبين للغرور، فالفاء للمصاحبة، ويجوز أن يتعلقا بدلاهما، فتكون لمجرد السببية، أي:
دلاهما بسبب غروره إياهما (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) الفاء عاطفة، ولما حينية ظرفية، أو حرف لمجرد الربط، وذاقا الشجرة فعل وفاعل ومفعول به وجملة ذاقا في محل جر بالإضافة، وجملة بدت لهما لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ولهما جار ومجرور متعلقان ببدت، وسوءاتهما: فاعل بدت (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) الواو حرف عطف، وطفقا من أفعال الشروع، وسيأتي حكمها، والألف اسمها، وجملة يخصفان خبرها، وعليهما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ومن ورق الجنة جار ومجرور متعلقان بيخصفان، والجنة مضاف إليه (وَناداهُما رَبُّهُما: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) الواو عاطفة، وناداهما ربهما فعل ومفعول به وفاعل، وجملة ألم أنهكما مفسرة لا محل لها، والهمزة للاستفهام، وتفيد العتاب والتقريع على الخطأ، حيث لم يتحوّطا ويعتصما بالحذر مما حذرهما الله منه، وعن تلكما جار ومجرور متعلقان بأنهكما، والشجرة بدل من اسم الاشارة (وَأَقُلْ لَكُما: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) الواو حرف عطف، وأقل فعل مضارع معطوف على الفعل المجزوم بلم،

وإن واسمها، ولكما جار ومجرور متعلقان بعدو أو بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لعدو، وتقدم عليه، ومبين صفة لعدو، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول.
الفوائد:
أفعال المقاربة: يطلق النحاة على الأفعال التي تعمل عمل كان وأخواتها اسم أفعال المقاربة، من إطلاق الجزء على الكل، وحقيقة الأمر في ذلك أن هذه الأفعال ثلاثة أنواع:
١- ما وضع للدلالة على قرب الخبر المسمى باسمها، وهو ثلاثة أنواع: كاد وكرب وأوشك.
٢- ما وضع للدلالة على رجائه، وهو ثلاثة أنواع: عسى وحرى واخلولق.
٣- ما وضع للدلالة على الشروع فيه، وهو كثير، وقد أنهى أفعاله بعضهم الى نيف وعشرين فعلا، وأشهرها: أنشأ وطفق وطبق- بكسر الباء- وجعل وعلق وهلهل وقام وابتدأ.
شرط الخبر لهذه الأفعال:
ويجب أن يكون خبر هذه الأفعال جملة، وشذّ مجيئه مفردا بعد كاد وعسى كقول تأبط شرّا:
فأبت الى فهم وما كدت آئبا | وكم مثلها فارقتها وهي تصفر |
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني | ثوبي فأنهض نهض الشّارب الثّمل |
وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه | تكلّمني أحجاره وملاعبه |
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا... إذا قيل: هاتوا أن يملّوا ويمنعوا صفحة رقم 326

والتجرد من «أن» قليل، كقول هدبة:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه | يكون وراءه فرج قريب |
يوشك من فرّ من منيّته | في بعض غرّاته يوافقها |
كرب القلب من جواه يذوب... حين قال الوشاة: هند غضوب
ومن القليل قوله:
كادت النفس أن تفيض عليه | مذ غدا حشو ربطة وبرود |
هذه الأفعال ملازمة لصيغة الماضي إلا أربعة استعمل لها مضارع، وهو كاد، نحو: «يكاد زيتها يضيء»، وأوشك، نحو:
يوشك من فر من منيته | في بعض غرّاته يوافقها |