
لِباسٌ لَهُنَ
وَقَوْلُهُ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً قَالُوا يُرِيدُ النُّطْفَةَ وَالْمَنِيَّ وَالْحَمْلُ بِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي الْبَطْنِ أَوْ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ، وَالْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَا حُمِلَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَرَّتْ بِهِ أَيِ اسْتَمَرَّتْ بِالْمَاءِ وَالْحَمْلِ عَلَى سَبِيلِ الْخِفَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ وَتَقْعُدُ وَتَمْشِي مِنْ غَيْرِ ثِقَلٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ فَمَرَّتْ بِهِ بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ غَيْرُهُ (فَمَارَتْ بِهِ) مِنَ الْمِرْيَةِ. كقوله: أَفَتُمارُونَهُ [النجم: ١٢] وفي قراءة أخرى أفتمرونه مَعْنَاهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهَا ظَنُّ الْحَمْلِ وَارْتَابَتْ فِيهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ صَارَتْ إِلَى حَالِ الثِّقَلِ وَدَنَتْ وِلَادَتُهَا دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أَيْ وَلَدًا سَوِيًّا مِثْلَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ فَلَمَّا آتاهُما اللَّه صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ مَرَّ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ (عَنْهُ شُرَكَاءَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (عَنْهُ شِرْكًا) بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَنْوِينِ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ جَعَلَا لَهُ نُظَرَاءَ ذَوِي شِرْكٍ وَهُمُ الشُّرَكَاءُ، أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَحْدَثَا للَّه إِشْرَاكًا فِي الْوَلَدِ وَمَنْ قَرَأَ شُرَكاءَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا [الرَّعْدِ: ١٦] وَأَرَادَ بِالشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبْلِيسَ لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ إِبْلِيسَ فَقَدْ أَطَاعَ جَمِيعَ الشَّيَاطِينِ، هَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩١ الى ١٩٤]
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ إِبْلِيسَ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَجْنَبِيَّةً عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْفَسَادِ فِي النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ، بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَائِرِ الْأَجْوِبَةِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ فَقَوْلُهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ مَعْنَاهُ أَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا؟ وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَيْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ يَعْنِي الْأَصْنَامَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَحَّدَ يَخْلُقُ ثُمَّ جَمَعَ فَقَالَ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَأَيْضًا فَكَيْفَ ذَكَرَ الْوَاوَ وَالنُّونَ فِي جَمْعِ غَيْرِ النَّاسِ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَفْظَ (مَا) تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ والجمع، فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظَاهِرِ لَفْظِهَا. وَمُحْتَمِلَةٌ لِلْجَمْعِ فاللَّه تَعَالَى اعْتَبَرَ الْجِهَتَيْنِ فَوَحَّدَ قَوْلَهُ: يَخْلُقُ رِعَايَةً لِحُكْمِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَجَمَعَ قَوْلَهُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ رِعَايَةً لِجَانِبِ المعنى.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي غَيْرِ مَنْ يَعْقِلُ كَيْفَ يَجُوزُ؟ فَنَقُولُ: لَمَّا اعْتَقَدَ عَابِدُوهَا أَنَّهَا تَعْقِلُ وَتُمَيِّزُ فَوَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ بِنَاءً عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ وَيَتَصَوَّرُونَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] وَقَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُفَ: ٤] وقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: ١٨].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُوجِدٍ وَلَا خَالِقٍ لِأَفْعَالِهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَجْسَامِ بِسَبَبِ أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهَذَا الطَّعْنُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ قُلْنَا إِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا كَانَتْ خَالِقَةً لِشَيْءٍ لَمْ يَتَوَجَّهِ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّتِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا كَانَ إِلَهًا، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ كَانَ إِلَهًا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، عَلِمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يُرِيدُ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْصُرُ مَنْ أَطَاعَهَا وَلَا تَنْتَصِرُ مِمَّنْ عَصَاهَا. وَالنَّصْرُ: الْمَعُونَةُ عَلَى الْعَدُوِّ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ عِبَادَتُهَا؟
ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَكْرُوهًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ كَسْرَهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْعِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ [إلى آخر الآية] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كَمَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فكذا لا يصح فيه إذا دعى إِلَى الْخَيْرِ الِاتِّبَاعُ. وَلَا يُفَصِّلُ حَالَ مَنْ يُخَاطِبُهُ مِمَّنْ يَسْكُتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَوَّى هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [الْبَقَرَةِ: ٦] وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنَ الْمَبَاحِثِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الفعل، وهاهنا عَطَفَ الِاسْمَ عَلَى الْفِعْلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
أَدَعَوْتُمُوهُمْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ: وَقَوْلَهُ: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ مُشْعِرَةٌ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَصِيغَةُ الِاسْمِ مُشْعِرَةٌ بِالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا وَقَعُوا فِي مُهِمٍّ وَفِي مُعْضِلَةٍ تَضَرَّعُوا إِلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ، وَإِذَا لَمْ تَحْدُثْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ بَقُوا سَاكِتِينَ صَامِتِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ لَا فَرْقَ بين إحدائكم دُعَاءَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى صَمْتِكُمْ وَسُكُوتِكُمْ، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ اللَّه بَيَانَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْسُنُ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا عِبَادٌ مَعَ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا/ ادَّعَوْا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَجَبَ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهَا كَوْنَهَا عَاقِلَةً فَاهِمَةً، فَلَا جَرَمَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى وَفْقِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِبْنَ لَكُمْ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ وَلَمْ يَقُلِ الَّتِي.