
وفي قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لا يعلمون أنها كائنة، قاله مقاتل. والثاني:
لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا سبب نزولها.
(٥٩٩) أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري فتربح، وبالأرض التي تريد أن تُجدب، فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس.
وفي المراد بالنفع والضر قولان: أحدهما: أنه عامّ في جميع ما ينفع ويضر، قاله الجمهور.
والثاني: أن النفع: الهدى، والضَّر: الضلالة، قاله ابن جريج. قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي: إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي ومن هو على هذه الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟
قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيَّأت لسنة الجدب ما يكفيها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لو كنت أعلم متى أموت لا لاستكثرت من العمل الصالح، قاله مجاهد. والرابع: لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأَجبت عنه. وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: لم يلحقني تكذيب، قاله الزجاج. فأما الغيب، فهو كل ما غاب عنك. ويخرج في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العمل الصالح. والثاني: المال.
والثالث: الرزق.
قوله تعالى: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فيه أربعة اقوال: أحدها: أنه الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كل ما يسوء، قاله ابن زيد. والثالث: الجنون، قاله الحسن. والرابع: التكذيب، قاله الزجاج. فعلى قول الحسن، يكون هذا الكلام مبتدأ، والمعنى: وما بي من جنون إنما أنا نذير، وعلى باقي الأقوال يكون متعلّقا بما قبله.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩١]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني بالنفس: آدم، وبزوجها: حواء. ومعنى لِيَسْكُنَ إِلَيْها: ليأنس بها ويأتي إليها. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها. قال الزجاج: وهذا أحسن

كناية عن الجماع. والحمل، بفتح الحاء: ما كان في بطن، أو أخرجتْه شجرة. والحمل، بكسر الحاء:
ما يُحمل. والمراد بالحمل الخفيف: الماء.
قوله تعالى: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرَّت به، قعدت وقامت ولم يُثقلها. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، والضحاك: «فاستمرت به» وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والجونيّ:
«فاستمارّت به» بزيادة ألف. وقرأ عبد الله بن عمرو، والجحدري: «فمارَّت به» بألف وتشديد الراء.
وقرأ أبو العالية، وأيوب، ويحيى بن يعمر: «فَمَرَتْ به» خفيفة الراء، أي: شكّت وتمارت أحملت، أم لا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ، أي: صار حملها ثقيلاً. وقال الأخفش: صارت ذا ثقل. يقال: أثمرنا، أي: صرنا ذوي ثمر.
قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً وفي المراد بالصالح قولان:
أحدهما: أنه الإنسان المشابه لهما، وخافا أن يكون بهيمة، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه الغلام، قاله الحسن، وقتادة.
(شرح السبب في دعائهما) (٦٠٠) ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء، فقال: ما يدريك ما في بطنكِ، لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج، أيشق بطنك، أم يخرج من فيك، أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك، فدعوا الله حينئذ، فجاء إبليس فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت الله، فجعله إنساناً مثلك ومثل آدم، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم. فلما ولدته سويَّاً، جاءها إبليس فقال: لم لا تُسمِّينه بي كما وعدتني، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فسمته: عبد الحارث، وقيل: عبد شمس برضى آدم، فذلك قوله تعالى:
وورد موقوفا على ابن عباس أخرجه الطبري ١٥٥٢٧ و ١٥٥٢٨ وموقوفا على قتادة ١٥٥٣١ و ١٥٥٣٢، وموقوفا على عكرمة ١٥٥٣٠ وعلى مجاهد ١٥٥٣٣ وعلى سعيد بن جبير ١٥٥٣٤ و ١٥٥٣٥، وموقوفا على السدي ١٥٥٣٦ وهذا هو الصواب. وهو متلقى عن أهل الكتاب، ولا يصح مرفوعا البتة، والمتن في غاية النكارة، لا يصح نسبة الشرك إلى نبي الله آدم عليه السلام أبدا.
ومما يدل على بطلانه هو أن الحسن- وهو أحد رواته- فسر هذه الآية بخلاف هذا الحديث فقد أخرج الطبري ١٥٥٣٧ عن الحسن قال: كان ذلك في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم. و ١٥٥٣٨ عن معمر عن الحسن قال: عني بذلك ذرية آدم. و ١٥٥٣٩ عن قتادة عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى اه.
وهذه روايات صحيحة عن ثلاثة أثبات رووها عن الحسن فيدل هذا على أن الحديث المرفوع من أوهام عمر العبدي ومنكراته والراجح أن هذا الخبر من الإسرائيليات. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي.

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «شركاء» بضم الشين والمدّ، جمع شريك. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «شِركاً» مكسورة الشين على المصدر، لا على الجمع. قال أبو علي: من قرأ «شِرْكاً» حذف المضاف، كأنه أراد: جعلا له ذا شِرك، وذوي شريك فيكون المعنى: جعلا لغيره شِركاً، لأنه إذا كان التقدير: جَعلا له ذوي شرك، فالمعنى: جعلا لغيره شركاً وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ «شركاء». وقال غيره: معنى «شركاء» : شريكاً، فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «١». والمراد بالشريك: إبليس، لأنهما أطاعاه في الاسم، فكان الشرك في الطاعة، لا في العبادة ولم يقصدا أن الحارثَ ربُّهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما وقد يُطلَق العبد على من ليس بمملوك. قال الشاعر:
وإني لَعبدُ الضَّيف ما دَامَ ثَاوياً | وما فيَّ إلا تِلْكَ مَنْ شِيْمَةِ العَبْدِ «٢» |
«جعلا له شركاء» عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم، لا إلى آدم وحواء. وقيل: الضمير راجع إلى الولد الصالح، وهو السليم الخلْق، فالمعنى: جعل له ذلك الولدُ شركاء. وإنما قال: «جعلا» لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأُنثى. قال ابن الأنباري: الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء. فتأويل الآية: فلما آتاهما صالحاً، جعل أولادُهُما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٣». وذهب السدي إلى أن قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ في مشركي العرب خاصة، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحوّاء.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩١]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً قال ابن زيد: هذه لآدم وحواء حيث سمّيا ولدهما عبد شمس، والشمس لا تخلق شيئاً. وقال غيره: هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله الاصنام، وهي لا تخلق شيئا. وقوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: وهي مخلوقة. قال ابن الأنباري: وإنما قال: «ما» ثم قال: «وهم يُخلَقون» لأن «ما» تقع على الواحد والاثنين والجميع وإنما قال: «وهم» وهو يعني الأصنام، لأن عابديها أدّعَوا أنها تعقل وتميِّز، فأجريت مجرى الناس، فهو كقوله تعالى:
(٢) البيت منسوب إلى المقنع الكندي في «الحماسة» ٣/ ١١٨٠.
(٣) سورة يوسف: ٨٢.