
وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَخْصِ الْمَصَابِيحِ إِلَى جِنْسِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ. سِيَاقُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَدْ أَصَابَ كُنْهَ الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ طَعْنًا فِي عَقِيدَةِ أَبَوَيْنَا آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِمَا تُبْطِلُهُ عَقَائِدُ الْإِسْلَامِ، وَجَبَ الْجَزْمُ بِبُطْلَانِهَا وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى سَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَأَفَنَ آرَائِهِمْ بِهَذَا الشِّرْكِ فَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّجْهِيلِ، أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُمْ وَلِأَوْلَادِهِمْ وَلِكُلِّ شَيْءٍ، مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ مَهْمَا يَكُنْ حَقِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ (٢٢: ٧٣) وَلَيْسَ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَلَا يَلِيقُ بِسَلِيمِ الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَخْلُوقَ الْعَاجِزَ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ! وَالْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا حِكَايَةٌ لِشِرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالتَّمَاثِيلِ كَافَّةً، وَمِنْهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَأَمْثَالُهُمْ مِمَّنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِهِمْ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، فَقَوْلُهُ: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا يُرَادُ بِهِ أَصْنَامُهُمْ ; لِأَنَّ " مَا " لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي " يَخْلُقُ " مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ ثُمَّ جَمَعَ فِي " يُخْلَقُونَ " مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، وَجَعْلُهُ ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْحِكَايَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضَارِع " يُخْلَقُونَ " لِتَصْوِيرِ حُدُوثِ خَلْقِهِمْ، وَكَوْنِ مِثْلِهِ مِمَّا يَتَجَدَّدُونَ فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا أَسْوَأُ فَضَائِحِهِمْ فِي الشِّرْكِ.
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ: وَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ غَيْرَ خَالِقِينَ لِشَيْءٍ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِعَابِدِيهِمْ نَصْرًا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَصْرًا عَلَى مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا بِإِهَانَةٍ لَهَا، أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ طِيبِهَا أَوْ حُلِيِّهَا، كَمَا قَالَ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٢٢: ٧٣) أَيْ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكُمْ فِي تَكْرِيمِهِمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، بَلْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَدْفَعُونَ عَنْهُمْ وَتَنْصُرُونَهُمْ بِالنِّضَالِ دُونَهُمْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ قَرَأَ نَافِعٌ (لَا يَتْبَعُوكُمْ) بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى
مَا هُوَ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتْبَعُوكُمْ، فَلَا هُمْ يَنْفَعُونَكُمْ، وَلَا هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْكُمْ، أَوِ الْمَعْنَى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى إِفَادَتِكُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ أَيْ: مُسْتَوٍ عِنْدَكُمْ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَبَقَاؤُكُمْ عَلَى صَمْتِكُمْ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ: صَمَتُّمْ، أَوْ تَصْمُتُونَ ; لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِهِمْ كَانَ قَدْ وَهَنَ بِحَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَكَوَارِثِ الْخُطُوبِ بَلْ يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِتَقَالِيدِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ فِيهِمْ وَالرَّجَاءِ بِشَفَاعَتِهِمْ

فِي أَوْقَاتِ الرَّخَاءِ، الَّتِي لَا يَشْعُرُ فِيهَا الْإِنْسَانُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٢٩: ٦٥) وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ عِنْدَ قُرْبِ وَضْعِ الْحَامِلِ، وَالشِّرْكُ بَعْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْوَصْفِ (صَامِتُونَ) لِإِفَادَةِ كَوْنِ إِحْدَاثِ الدُّعَاءِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الثَّابِتَةِ قَبْلَهُ وَاسْتِمْرَارِهَا سَوَاءٌ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ بِنَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى دُعَائِهِمْ، وَعَدَمِ خُطُورِهِمْ بِالْبَالِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَالشُّعُورِ بِحَاجَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَى الرَّبِّ الْخَالِقِ، وَلَوْ قَالَ: " أَمْ صَمَتُّمْ " أَوْ " أَمْ أَنْتُمْ تَصْمُتُونَ " لَمَّا كَانَتِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَإِيجَابٍ وَسَلْبٍ ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِتَكَلُّفِ الصَّمْتِ، وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْ دُعَائِهِمْ وَلَوْ لِلتَّجْرِبَةِ مَعَ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي الْمُرَادِ مِنْ كَوْنِ وُجُودِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ، وَمِنْ كَوْنِ دُعَائِهَا مُسَاوِيًا لِتَرْكِ الدُّعَاءِ، وَلَوْ مَعَ انْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَسَائِلُ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ وَتُقَرِّبُ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا كَانَ يَقُولُ أُولُو الْوَثَنِيَّةِ الْكَاسِيَةِ الْحَالِيَّةِ، أَوْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَا أَعْطَاهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِاسْتِقْلَالِهَا، كَمَا يَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْوَثَنِيَّةِ الْعَارِيَةِ الْعَاطِلَةِ - لَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ دُعَائِهَا ضَارًّا بِهِمْ، أَوْ مُضَيِّعًا بَعْضَ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ يَظُنُّ مَنْ أَشْرَكَ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ أَنَّ هَذَا التَّوْبِيخَ لَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَدْعُونَ جَمَادًا أَوْ شَجَرًا لَا يَعْقِلُ، وَهُمْ يَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ وَصُلَحَاءَ، لِأَمْوَاتِهِمْ حُكْمُ الشُّهَدَاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ قُبُورَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهَا ; لِأَنَّ لِأَرْوَاحِهِمُ اتِّصَالًا بِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ مِنْ جَهْلِهِمْ بِأَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ لَمْ تُنْصَبْ إِلَّا لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ الَّتِي انْتَقَلَتْ
إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَتِ اللَّاتُ صَخْرَةً لِرَجُلٍ يَلُتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقَ وَيُطْعِمُهُ لِلنَّاسِ، فَالْأَصْنَامُ وَالتَّمَاثِيلُ وَالْقُبُورُ الَّتِي تُعَظَّمُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهَا وُضِعَتْ لِلتَّذْكِيرِ بِأُنَاسٍ عُرِفُوا بِالصَّلَاحِ، وَكَانُوا هُمُ الْمَقْصُودِينَ بِالدُّعَاءِ، لِمَا تَخَيَّلُوا فِيهِمْ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي إِرَادَةِ اللهِ، أَوِ التَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ فِي مُلْكِ اللهِ، وَهُوَ أَفْحَشُ الشِّرْكِ بِاللهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ إِشْرَاكِ الصَّنَمِ وَالْوَثَنِ، وَإِشْرَاكِ الْوَلِيِّ أَوِ النَّبِيِّ أَوِ الْمَلَكِ، فَاقْرَأِ الْآيَاتِ فِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لِلَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (٢١: ٢٦ - ٢٩)