آيات من القرآن الكريم

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﲿ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

التذكير بالنشأة الأولى والأمر بالتوحيد واتباع القرآن والنهي عن الشرك
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٣]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
الإعراب:
لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً صالحا صفة المفعول الثاني المحذوف، وتقديره: ابنا صالحا، والمفعول الأول: (نا) في الفعل.
شُرَكاءَ جمع شريك، وفيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي جعل أولادهما له شركاء. وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله:
تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم.
البلاغة:
فَلَمَّا تَغَشَّاها التغشي: كناية عن الجماع.

صفحة رقم 199

المفردات اللغوية:
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي من آدم، أو من جنس واحد وَجَعَلَ خلق زوجها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليأنس بها ويطمئن إليها ويألفها تَغَشَّاها جامعها، مثل غشيها حَمَلَتْ علقت منه حَمْلًا خَفِيفاً هو النطفة، والحمل بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على شجرة، وبالكسر: ما كان على ظهر فَمَرَّتْ بِهِ استمرت حاملة له إلى وقت ميلاده فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صار الحمل ثقيلا وقرب وضعها صالِحاً أي ولدا أو نسلا صالحا أي سويا سليما في الجسم والفطرة فَتَعالَى اللَّهُ تعاظم وتنزه عن الشريك والولد عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أهل مكة به من الأصنام.
وأجريت الأصنام مجرى العقلاء أولي العلم في قوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله وهم يخلقون.
وجملة فَتَعالَى... عطف على خَلَقَكُمْ وما بينهما اعتراض.
المناسبة:
موضوع الآيات عود على بدء، فقد بدئت السورة بالكلام عن التوحيد واتباع القرآن، ثم ختمت بالكلام عن التوحيد وعن القرآن، والتذكير بالنشأة الأولى، كما ذكّر بها سابقا، لترسيخ العقيدة بوجود الله ووحدانيته، والامتناع عن الشرك، والعهد عن وسوسة الشيطان.
التفسير والبيان:
الله هو الذي خلقكم في الأصل من نفس واحدة، قال جمهور المفسرين:
المراد بالنفس الواحدة: آدم عليه السّلام، ثم خلق منه زوجته حواء، ثم انتشر الناس منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات ٤٩/ ١٣] وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء ٤/ ١].
ورأى بعض المفسرين أن المعنى: خلقكم من جنس واحد وطبيعة واحدة،

صفحة رقم 200

وجعل زوجه من جنسه، ليسكن إليها، ويطمئن بها، كما خلق من كل الأنواع زوجين اثنين، كما قال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٩].
وقوله: لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليأنس بها ويطمئن ويألفها، كقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم ٣٠/ ٢١] وهذا التآلف قائم في أعماق كل من الرجل والمرأة، ففي عهد الشباب لا تسكن النفس إلا بالاقتران بزوج آخر، ولا نجد ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين، والجنس ميال بطبيعته إلى جنسه، والتعاون على شؤون الحياة يحتاج إلى التزاوج، وبقاء النوع الإنسان مرهون بهذا الترابط بين الجنسين: الذكر والأنثى.
ثم ذكر الله تعالى ثمرة هذا التزاوج بين الرجل والمرأة فقال: فَلَمَّا تَغَشَّاها وهو كناية عن الوقاع، أي فلما حدث الوطء أو الوقاع أو الجماع بين الجنسين، بدأ تكون الجنين، وحدث الحمل الخفيف، وهو أول الحمل الذي لا تجد فيه المرأة ثقلا ولا ألما، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ويرتفع الحيض عادة ببدء الحمل، وتستمر المرأة في متابعة أعمالها المعتادة دون مشقة، وهذا هو المراد من قوله: فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف.
فلما أثقلت المرأة الحامل أي صارت ذات ثقل بحملها بسبب كبر الولد في بطنها، وحان وقت الوضع، دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما، أي دعا الزوجان وهما آدم وحواء مقسمين: لئن آتيتنا ولدا صالحا، أي بشرا سويا، تام الخلق، سليم الفطرة، لنكونن لك من الشاكرين نعمتك، المشتغلين بشكر تلك النعمة.
فلما آتاهما الله ما طلبا، ورزقهما ولدا صالحا سويا كامل الخلقة، جعل الزوجان لله شركاء أي شريكا فيما آتاهما وأعطاهما، فتعالى أي تعاظم وتنزه اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
وينسبون له من الولد والشريك.

صفحة رقم 201

ومن المراد بقوله جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؟
ذكر بعض المفسرين كالسيوطي أن المراد آدم وحواء، بالاعتماد على
حديث ضعيف في الترمذي وغيره، وهو ما رواه سمرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لما ولدت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث- وكان اسم إبليس حارثا بين الملائكة- فإنه يعيش، فسمته، فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره.
وتؤيده روايات إسرائيلية كثيرة لاثبات لها، فلا يعول عليها، وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء.
والواقع- على افتراض أن المراد بالنفس الواحدة: آدم- أن نسبة هذا الجعل إلى آدم وحواء يراد به بعض أولادهما، قال الحسن البصري: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهوّدوا ونصّروا «١».
وأيّد ابن كثير هذا التأويل عن الحسن رضي الله عنه، فقال: وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية... وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بصيغة الجمع. فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، كقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك ٦٧/ ٥] ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن «٢».

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٧٥.
(٢) المرجع السابق: ٢/ ٢٧٥- ٢٧٦.

صفحة رقم 202

والخلاصة: إن الشرك نسب إلى آدم وحواء، والمراد به أولادهما، كاليهود والنصارى والمشركين لأن آدم وزوجته لم يكونا مشركين.
قال الزمخشري في قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أي آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم «١». وقد ذكر الرازي هذا التأويل.
وذكر أيضا أي الرازي تأويلا آخر للآية وهو أن قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، وتقريره: فلما آتاهما صالحا، اجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك، وينسبونه إلى آدم عليه السّلام «٢».
وهذا كله على تسليم أن القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء.
وهناك من جعل الخطاب في الآية لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم آل قصي، إذ سمّى قصي وزوجته القرشيان أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات.
وقال القفال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، على أساس أن المراد بالزوجين الجنس أي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة أو جنس

(١) الكشاف: ٢/ ٥٩٢.
(٢) تفسير الرازي: ١٥/ ٦٧ وما بعدها.

صفحة رقم 203

واحد، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية.
ثم فنّد الله تعالى آراء المشركين، ونقض الشرك من جذوره، فقال:
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً... أي أيشركون بالله شيئا لا يستطيع إطلاقا خلق أي شيء؟ أو أيشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا، ولا يستطيع ذلك؟ وإنما الله هو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق، كما قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج ٢٢/ ٧٣].
وهذه الأصنام مخلوقة مصنوعة، كما قال تعالى: لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل ١٦/ ٢٠].
وهم لا يستطيعون لعابديهم تحقيق أي معونة أو نصر، بل إنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم على من يعتدي عليهم بإهانة أو سب أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلي، فلا نصر لأنفسهم ممن أرادهم بسوء. وقال: يخلقون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس.
فهذا كله إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله، مربوبة، مصنوعة لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم.
ثم ذكر الله تعالى أن هذه الأصنام لا تصلح تبعا فضلا عن أن تكون متبوعة، فقال: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى... أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد، أو إلى أن يهدوكم إلى ما تريدون تحقيقه، لا يستجيبون لكم ولا ينفعونكم، فهم في الحالين عديمو النفع، فإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله

صفحة رقم 204

الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويدل عليه قوله تعالى: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف ٧/ ١٩٤].
سواء لديكم دعاؤكم إياهم، أو سكوتكم عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم، ولا خير يرتجى منهم، إذ هم لا يفهمون الدعاء، ولا يسمعون الأصوات، ولا يعقلون الكلام.
ومثل من كانت هذه صفته، لا يصلح ربا معبودا، وإنما الرب الموجود المعبود هو السميع البصير، العليم الخبير، الناصر القادر، النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الهادي إلى الرشاد، المنقذ من الردى، المجيب المضطر إذا دعاه.
وعبر بالجملة الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار: أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ بدلا عن الجملة الفعلية المشعرة بالتجدد المتكرر: «أم صمتم» لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر، دعوا الله دون أصنامهم، كقوله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل لهم: إن دعوتموهم، لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من الاستمرار على سكوتكم ومن عادة صمتكم عن دعائهم «١». أي فلا فرق بين تجديد دعاء الأصنام بفعل متجدد وبين الاستمرار والثبات على حال الصمت وعدم دعائها، وبذلك صلح عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية الذي لا يجوز إلا لفائدة وحكمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الناس في الأصل مخلوقون من نفس واحدة، المشهور أنها نفس آدم.

(١) الكشاف: ٢/ ٥٩٢.

صفحة رقم 205

وحواء مخلوقة من نفس آدم: وخلق منها زوجها على معنى أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم، وحكمة ذلك أن الجنس أميل إلى الجنس، والجنسية علة الضم واللقاء والألفة بين الرجل والمرأة. واستشكل الرازي هذا الكلام فإن الله قادر على أن يخلق حواء خلقا مستقلا كما خلق آدم ابتداء، فلماذا يقال: إنه تعالى خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ثم رجح أن المراد من كلمة «من» في قوله: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها خلق حواء من نوع آدم ومن جنسه في الإنسانية، وجعل زوج آدم إنسانا مثله «١».
٢- من رحمة الله تعالى بالأم أن جعل خلق الجنين واكتمال الحمل على مراحل متدرجة من الأخف إلى الأثقل، كيلا تشعر بالثقل المفاجئ، ولتظل قائمة بأعمالها المعتادة دون إرهاق.
٣- يفهم من ظاهر قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أن الحمل مرض من الأمراض، ولأجل عظم الأمر جعل موتها شهادة،
كما ورد في حديث تعداد الشهداء الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم: «الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة»
أي تموت وفي بطنها ولد. فيكون حال الحامل في رأي الإمام مالك حال المريض في أفعاله بعد مضي ستة أشهر من الحمل، أي المريض مرض الموت، وهو الذي لا تنفذ تبرعاته من هبة ومحاباة في بيع إلا في ثلث ماله. وقال الأئمة الثلاثة: إنما يكون ذلك في الحامل بحال الطّلق، فأما قبل ذلك فلا لأن الحمل عادة، والغالب فيه السلامة. ورد المالكية بقولهم: كذلك أكثر الأمراض غالبة السلامة، وقد يموت من لم يمرض.

(١) تفسير الرازي: ١٥/ ٨٩.

صفحة رقم 206

ويعد الزاحف في الصف للقتال والمحبوس للقتل في قصاص بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه، ما كان بتلك الحال، في رأي الإمام مالك، فلا يتبرع إلا في الثلث.
٤- الأوثان لا تصلح للألوهية لأنها مخلوقة، وغير قادرة على خلق شيء أو إيجاد نفع أو ضر فكيف يعبد ما لا يقدر على أن يخلق شيئا؟! والمقصود من الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للألوهية.
٥- ليس المراد من قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ما ذكر من قصة إبليس مع آدم عليه السّلام السابق ذكرها إذ لو كان المراد ذلك، لكانت هذه الآية غريبة عن تلك القصة غرابة كلية، وأدى الأمر إلى إفساد النظم والترتيب، وإنما المراد بها الرد على عبدة الأوثان، كما ذكر القفال، فهي بيان لخلق الرجل والمرأة من جنس واحد ومن أصل واحد في الإنسانية، ثم التنديد بفعل بعض الأزواج، فلما تغشى الزوج زوجته (واقعها) وظهر الحمل، دعا الزوجان ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
نعمائك، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعلا لله شُرَكاءَ فِيما آتاهُما لأن الأزواج تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبيعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول الفلكيين، وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام.
٦- احتج أهل السنة بقوله: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً، وَهُمْ يُخْلَقُونَ على أن العبد لا يخلق ولا يوجد أفعاله، وإنما الذي يخلق هو الإله، فلو كان العبد خالقا لأفعال نفسه، كان إلها.
٧- دل قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً... على أن الأصنام لا تنصر من أطاعها، ولا تنتصر ممن عصاها. والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع، ودفع الضرر، وهذه الأصنام عاجزة عن ذلك، فكيف يليق بالعاقل عبادتها؟!

صفحة رقم 207
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية