
القول في تأويل قوله: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه.
* * *
وأدخلت الألف واللام في "الألواح" بدلا من الإضافة، كما قال الشاعر: (١)
والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِب (٢)
وكما قال جل ثناؤه: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، [سورة النازعات: ٤١]، يعني: هي مأواه. (٣)
* * *
وقوله: "من كل شيء"، يقول: من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعز سلطانه= "موعظة"، لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح (٤) = "وتفصيلا لكل شيء"، يقول: وتبيينًا لكل شيء من أمر الله ونهيه. (٥)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٠٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =: أو سعيد بن جبير، وهو في أصل
(٢) (٢) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ٥: ١٦٠، تعليق: ٣، ولم يذكر هناك موضعه هناك، فليقيد، والبيت، بروايته آنفاً:
لَهُمْ شِيمَةٌ لم يُعْطِها الدَّهْرُ غَيْرَهُمْ | من الناسِ، فَالأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ |
(٤) (٤) انظر تفسير ((الموعظة)) فيما سلف من فهارس اللغة (وعظ).
(٥) (٥) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: ٦٨، تعليق: ٥، والمراجع هناك.

كتابي: عن سعيد بن جبير= في قول الله: "وتفصيلا لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
١٥١٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٥١٠٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء"، من الحلال والحرام.
١٥١٠٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدا يقول في قوله: "وتفصيلاً لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
١٥١١٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال عطية: (١) أخبرني ابن عباس: أن موسى ﷺ انْصَلتَ لما كربه الموت، (٢) قال: هذا من أجل آدم! قد كان الله جعلنا في دار مثوًى لا نموت، فخطأ آدم أنزلنا هاهنا! فقال الله لموسى: أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله آدم، سأله
(٢) (٢) في المطبوعة، والدر المنثور ٣: ٢١: ((أن موسى ﷺ لما كربه الموت)). أسقط الذي كتبت: ((انصلت))، وهي في المخطوطة هكذا: ((الطيب)) غير منقوطة، ولم أجد لها لفظاً يطابق رسمها، ويجرى في معناها أقرب من ((انصلت)). يقال: ((انصلت في الأمر))، إذا انجرد وأسرع. يقال: ((انصلت يعدو)) إذا أسرع، و ((المنصلت)) : المسرع من كل شيء. وقد روى البخاري في صحيحة، عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام. فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد أن يموت، الحديث. فكأن هذا كان منه لما كره الموت وأبغضه، فأسرع لما رآه يقول ما قال. هذا ما رأيت، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر أخبار وفاة موسى عليه السلام في البداية والنهاية ١: ٣١٦ - ٣١٩.

موسى، فقال أبونا آدم عليهما السلام: يا موسى، سألت الله أن يبعثني لك! قال موسى: لولا أنت لم نكن هاهنا! قال له آدم: أليس قد أتاك الله من كل شيء موعظة وتفصيلا أفلست تعلم أنه ما أصاب في الأرض من مصيبة ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن يبرأها؟ (١) قال موسى: بلى! فخصَمه آدم صلى الله عليهما. (٢)
١٥١١١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول في قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال: كتب له: لا تشرك بي شيئًا من أهل السماء ولا من أهل الأرض، فإن كل ذلك خلقي. لا تحلف باسمي كاذبًا، فإن من حلف باسمي كاذبًا فلا أزكِّيه، ووقِّر والديك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء: خذ الألواح بقوة.
* * *
وأخرج الخبر عن "الألواح"، والمراد ما فيها.
* * *
(٢) (٢) الأثر: ١٥١١٠ - هذا خبر ضعيف الإسناد جداً، كما سلف في شرح إسناده رقم: ٣٠٥. واحتجاج آدم وموسى عليهما السلام، روى خبره البخاري ومسلم، وسائر كتب السنن، وانظر فصلا جيداً جمعه ابن كثير في البداية والنهاية ١: ٨١ - ٨٥. ويقال: ((خاصمه، فخصمه)) أي غلبه في الخصام. وهو الاحتجاج.

واختلف أهل التأويل في معنى "القوة"، في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناها بجدٍّ.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١١٢- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فخدها بقوة"، قال: بجدّ.
١٠١١٣- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فخذها بقوّة"، قال: بجد واجتهاد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، فخذها بالطاعة لله.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: "فخذها بقوة"، قال: بالطاعة.
* * *
وقد بينا معنى ذلك بشواهده، واختلاف أهل التأويل فيه، في "سورة البقرة" عند قوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [سورة البقرة: ٦٣] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: "وأمر قومك"، بني إسرائيل = "يأخذوا بأحسنها"، يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها، كما:-

١٥١١٥- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، بأحسن ما يجدون فيها.
١٥١١٦- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟.
قيل: لا ولكن كان فيها أمرٌ ونهيٌ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله، ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به، أحسنُ من العمل بالمنهي عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لموسى، إذ كتب في الألواح من كل شيء: خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم، فإني سأريه في الآخرة عند مصيره إليّ، "دارَ الفاسقين"، وهي نار الله التي أعدها لأعدائه. (١)
* * *
وإنما قال: "سأريكم دار الفاسقين"، كما يقول القائل لمن يخاطبه: "سأريك غدًا إلامَ يصير إليه حال من خالف أمري! "، على وجه التهدُّد والوعيد لمن عصاهُ وخالف أمره. (٢)
* * *
(٢) (٢) في المطبوعة ((على وجه التهديد)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض الصواب.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١١٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "سأريكم دار الفاسقين"، قال: مصيرهم في الآخرة.
١٥١١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥١١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، في قوله: "سأريكم دار الفاسقين"، قال: جهنم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشام، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٢٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "سأريكم دار الفاسقين"، منازلهم.
١٥١٢١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "دار الفاسقين"، قال: منازلهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون، وهي مصر.
* ذكر من قال ذلك:
..................................................................................................