
استصحبتنى حال المرور إلى فرعون؟ بل صبر ورضى بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفى قريب منه أنشدوا:
قال لى من أحب والبين قد... حلّ وفاقا لزفرتى وشهيقى
ما ترى فى الطريق تصنع بعدي... قلت: أبكى عليك طول الطريق
ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون- عليه السّلام- فى الخطاب، فقال:
«يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى».
ويقال لو قال هارون- عليه السّلام: إن لم تعوضنى عما فاننى من الصحبة فلا تعاتبنى فيما لم أذنب فيه بحال ذرة ولا حبّة... لكان موضع هذه القالة.
ويقال الذنب كان من بنى إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلّ من عصى وجنى استوجب العتاب، فالعتاب ممنوع عن الأجانب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
جاء موسى مجىء المشتاقين مجىء المهيّمين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يبق من موسى شىء لموسى. آلاف الرجال قطعوا مسافات طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطوات فإلى القيامة يقرأ الصبيان: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى».
ويقال لما جاء موسى لميقات بأسطر الحقّ- سبحانه- سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ»، فإن غلبات الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا:

وأبرح ما يكون الشوق يوما | إذا دنت الخيام من الخيام |
ويقال أخذته عزّة السّماع فخرج لسانه «١» عن طاعته جريا على مقتضى ما صحبه من الأريحيّة وبسط الوصلة.
ويقال جمع موسى- عليه السّلام- كلمات كثيرة يتكلم بها فى تلك الحالة فإن فى القصص أنه كان يتحمل فى أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه: ألكم حاجة إلى الله؟
ألكم كلام معه؟ فإنى أريد أن أمضى إلى مناجاته.
ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر- مما دبّره فى نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه فى قلبه- شيئا ولا حرفا، بل نطق بما صار فى الوقت غالبا على قلبه، فقال: ربّ:
أرنى أنظر إليك، وفى معناه أنشدوا:
فيا ليل كم من حاجة لى مهمة | إذا جئتكم ليلى فلم أدر ماهيا |
ولكن ما ازداد القوم شربا إلا ازدادوا عطشا، ولا ازدادوا تيما إلا ازدادوا شوقا، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقّ- سبحانه- يصون أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال «٢».
ويقال نطق موسى عليه السّلام بلسان الافتقار فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ولا أقلّ
(٢) وفى ذلك أنشدوا:
فما مل ساقينا وما مل شارب | عقار لحاظ كأسه يسلب اللبا |
ولوجهها من وجهها قمر | ولعينها من عينها كحل |
ويقال فى قوله: «انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» بلاء شديد لموسى لأنه نفي عن رؤية مقصوده ومني برؤية الجبل، ولو أذن له أن يغمض جفنه فلا ينظر إلى شىء بعد ما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمر أسهل عليه، ولكنه قال له: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ».
ثم أشدّ من ذلك أنه أعطى الجبل التّجلى فالجبل رآه وموسى لم يره، ثم أمر موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه فى هذا السؤال، وهذا- والله- لصعب شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرك لا أنظر إلى غيرك بل قال: لا أرفع بصرى عما أمرتنى بأن أنظر إليه، وفى معناه أنشدوا:
أريد وصاله ويريد هجرى | فأترك ما أريد لما يريد |
فذرينى أفنى قليلا قليلا ويقال لما ردّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: «تُبْتُ إِلَيْكَ».
يعنى إن لم تكن الرؤية هى غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فقبله- تعالى- لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جل ذكره: تُبْتُ إِلَيْكَ.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرح محلّ الخدمة وإن حيل بينك وبين وجود القربة لأن القربة حظّ نفسك، والخدمة حقّ ربك، وهى تتم بألا تكون بحظ نفسك. صفحة رقم 567