آيات من القرآن الكريم

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ

استصحبتنى حال المرور إلى فرعون؟ بل صبر ورضى بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفى قريب منه أنشدوا:
قال لى من أحب والبين قد... حلّ وفاقا لزفرتى وشهيقى
ما ترى فى الطريق تصنع بعدي... قلت: أبكى عليك طول الطريق
ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون- عليه السّلام- فى الخطاب، فقال:
«يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى».
ويقال لو قال هارون- عليه السّلام: إن لم تعوضنى عما فاننى من الصحبة فلا تعاتبنى فيما لم أذنب فيه بحال ذرة ولا حبّة... لكان موضع هذه القالة.
ويقال الذنب كان من بنى إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلّ من عصى وجنى استوجب العتاب، فالعتاب ممنوع عن الأجانب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
جاء موسى مجىء المشتاقين مجىء المهيّمين، جاء موسى بلا موسى، جاء موسى ولم يبق من موسى شىء لموسى. آلاف الرجال قطعوا مسافات طويلة فلم يذكرهم أحد، وهذا موسى خطا خطوات فإلى القيامة يقرأ الصبيان: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى».
ويقال لما جاء موسى لميقات بأسطر الحقّ- سبحانه- سقط بسماع الخطاب، فلم يتمالك حتى قال: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ»، فإن غلبات الوجد عليه استنطقته بطلب كمال الوصلة من الشهود، وكذا قالوا:

صفحة رقم 564

وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام
ويقال صار موسى- عليه السّلام- عند سماع الخطاب بعين السّكر فنطق ما نطق، والسكران لا يؤخذ بقوله، ألا ترى أنه ليس فى نص الكتاب معه عتاب بحرف؟
ويقال أخذته عزّة السّماع فخرج لسانه «١» عن طاعته جريا على مقتضى ما صحبه من الأريحيّة وبسط الوصلة.
ويقال جمع موسى- عليه السّلام- كلمات كثيرة يتكلم بها فى تلك الحالة فإن فى القصص أنه كان يتحمل فى أيام الوعد كلمات الحق، ويقول لمعارفه: ألكم حاجة إلى الله؟
ألكم كلام معه؟ فإنى أريد أن أمضى إلى مناجاته.
ثم إنه لما جاء وسمع الخطاب لم يذكر- مما دبّره فى نفسه، وتحمله من قومه، وجمعه فى قلبه- شيئا ولا حرفا، بل نطق بما صار فى الوقت غالبا على قلبه، فقال: ربّ:
أرنى أنظر إليك، وفى معناه أنشدوا:
فيا ليل كم من حاجة لى مهمة إذا جئتكم ليلى فلم أدر ماهيا
ويقال أشدّ الخلق شوقا إلى الحبيب أقربهم من الحبيب هذا موسى عليه السّلام، وكان عريق الوصلة، واقفا فى محل المناجاة، محدقة به سجوف التولي، غالبة عليه بواده الوجود، ثم فى عين ذلك كان يقول: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» كأنه غائب عن الحقيقة.
ولكن ما ازداد القوم شربا إلا ازدادوا عطشا، ولا ازدادوا تيما إلا ازدادوا شوقا، لأنه لا سبيل إلى الوصلة إلا بالكمال، والحقّ- سبحانه- يصون أسرار أصفيائه عن مداخلة الملال «٢».
ويقال نطق موسى عليه السّلام بلسان الافتقار فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ولا أقلّ
(١) تعليل القشيري لموقف الإفصاح الذي وقفه موسى يوضح كيف يلتمس هذا الباحث مبروا لشطحات الصوفية- بطريق غير مباشر، ويعزو ذلك تارة للسكر الروحي وتارة لوقوع العبد تحت تأثير العزة الإلهية، فيخرج اللسان عن طاعته.
(٢) وفى ذلك أنشدوا:

صفحة رقم 565

من نظرة- والعبد قتيل هذه القصة- فقوبل بالرّد، وقيل له: «لَنْ تَرانِي» وكذا قهر الأحباب ولذا قال قائلهم:
جور الهوى أحسن من عدله... وبخله أظرف من بذله
ويقال لمّا صرّح بسؤال الرؤية، وجهر صريحا ردّ صريحا فقيل له: «لَنْ تَرانِي»، ولما قال نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم- بسرّه فى هذا الباب، وأشار إلى السماء منتظرا الرد والجواب من حيث الرمز نزل قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» «١» فردّه إلى شهود الجهات والأطلال إشارة إلى أنه أعزّ من أن يطمح إلى شهوده- اليوم- طرف، بل الألحاظ مصروفة موقوفة- اليوم- على الأغيار «٢».
ويقال لما سمت همّته إلى أسنى المطالب- وهى الرؤية- قوبل «بلن، ولمّا رجع إلى الخلق وقال للخضر «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً»، قال الخضر: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» «٣» فقابله بلن، فصار الردّ موقوفا على موسى- عليه السّلام من الحق ومن الخلق، ليكون موسى بلا موسى، ويكون موسى صافيا عن كل نصيب لموسى من موسى، وفى قريب منه أنشدوا:
(.......) «٤» نحن أهل منازل... أبدا غراب البين فينا ينعق
ويقال طلب موسى الرؤية وهو بوصف التفرقة فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فأجيب بلن لأن عين الجمع أتم من عين الفرق. فزع موسى حتى خرّ صعقا، والجبل صار دكّا.
ثم الروح بعد وقوع الصعقة على القالب مكاشفته بما هو حقائق الأحدية، ويكون الحقّ- بعد امتحاء معالم موسى- خيرا لموسى من بقاء موسى لموسى، فعلى الحقيقة: شهود الحقائق بالحقّ أتم من بقاء الخلق بالخلق، كذا قال قائلهم:

(١) آية ١٤٤ سورة البقرة.
(٢) من هذا- ومما أوضحه فى رسالته- نعرف أن القشيري لا يرى بجواز رؤية الله بالبصر فى هذه الدنيا.
(٣) آية ٦٧ سورة الكهف.
(٤) هنا لفظتان مطموستان ونعرف أنهما «أبنى أبينا... »

صفحة رقم 566

فما مل ساقينا وما مل شارب عقار لحاظ كأسه يسلب اللبا
ولوجهها من وجهها قمر ولعينها من عينها كحل
ويقال البلاء الذي ورد على موسى بقوله: «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» أتمّ وأعظم منه قوله: «لَنْ تَرانِي» لأن ذلك صريح فى الرد، وفى اليأس راحة. لكنّه لما قال فسوف أطمعه فيما منعه فلما اشتد موقفه جعل الجبل دكا، وكان قادرا على إمساك الجبل، لكنه قهر الأحباب الذي به جرت سنّتهم.
ويقال فى قوله: «انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» بلاء شديد لموسى لأنه نفي عن رؤية مقصوده ومني برؤية الجبل، ولو أذن له أن يغمض جفنه فلا ينظر إلى شىء بعد ما بقي عن مراده من رؤيته لكان الأمر أسهل عليه، ولكنه قال له: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ».
ثم أشدّ من ذلك أنه أعطى الجبل التّجلى فالجبل رآه وموسى لم يره، ثم أمر موسى بالنظر إلى الجبل الذي قدم عليه فى هذا السؤال، وهذا- والله- لصعب شديد!! ولكن موسى لم ينازع، ولم يقل أنا أريد النظر إليك فإذا لم أرك لا أنظر إلى غيرك بل قال: لا أرفع بصرى عما أمرتنى بأن أنظر إليه، وفى معناه أنشدوا:
أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد لما يريد
ويقال بل الحق سبحانه أراد بقوله: «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» تداركه قلب موسى- عليه السّلام- حيث لم يترك على صريح الرد بل علله برفق كما قيل:
فذرينى أفنى قليلا قليلا ويقال لما ردّ موسى إلى حال الصحو وأفاق رجع إلى رأس الأمر فقال: «تُبْتُ إِلَيْكَ».
يعنى إن لم تكن الرؤية هى غاية المرتبة فلا أقل من التوبة، فقبله- تعالى- لسمو همته إلى الرتبة العلية.
قوله جل ذكره: تُبْتُ إِلَيْكَ.
هذه إناخة بعقوة العبودية، وشرط الإنصاف ألا تبرح محلّ الخدمة وإن حيل بينك وبين وجود القربة لأن القربة حظّ نفسك، والخدمة حقّ ربك، وهى تتم بألا تكون بحظ نفسك.

صفحة رقم 567
تفسير القشيري
عرض الكتاب
المؤلف
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري
تحقيق
إبراهيم البسيوني
الناشر
الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر
سنة النشر
2000
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية