
تَمْلُكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَلِذَلِكَ يَحْتَجُّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ غَيْرَ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا يُعْبَدُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ يَحْتَجُّ بِمَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، عَلَى مَا يُنْكِرُونَ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذَا مِرَارًا بِالشَّوَاهِدِ نَكْتَفِي بِهَذَا التَّذْكِيرِ هُنَا.
ثُمَّ إِنْ عِبَارَةَ طُلَّابِ الْأَصْنَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا بِنَصِّهَا فِي لُغَتِهِمْ، فَنَبْحَثُ فِيهَا أَخْطَأٌ أَمْ صَوَابٌ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا بِلُغَةِ كِتَابِهِ فَمَعْنَاهَا صَحِيحٌ قَطْعًا، فَإِنَّ الْإِلَهَ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ هُوَ الْمَعْبُودُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَإِنْ كَانَ مَصْنُوعًا، وَإِنَّمَا جَهَّلَهُمْ مُوسَى بِطَلَبِ عِبَادَةِ أَحَدٍ مَعَ اللهِ لَا بِتَسْمِيَةِ مَا طَلَبُوا مِنْهُ صَنْعَهُ إِلَهًا، فَإِنَّهُ هُوَ سَمَّى الْمَعْبُودَ الْمَصْنُوعَ إِلَهًا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ لِلسَّامِرِيِّ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ طه وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنَحْرِقَنَّهُ (٢٠: ٩٧) الْآيَةَ. وَإِنَّمَا كَانَ عِجْلُ السَّامِرِيِّ مِنْ صُنْعِهِ، وَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ قَبِلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ مَجْعُولَةً مَصْنُوعَةً مُتَّخَذَةً مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَالْمَعْدِنِ. أَنَسِيَ إِمَامُ النُّظَّارِ وَصَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ تَسْمِيَةِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِأَصْنَامِهِمْ بِالْآلِهَةِ؟ أَمْ نَسِيَ مَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٣٧: ٩٥، ٩٦) وَمِنْ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٢٦: ٦٩ - ٧٤) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ الرَّازِيُّ مِنْ أَظْهَرِ هَفَوَاتِهِ الْكَثِيرَةِ بُطْلَانًا؛ وَسَبَبُهُ امْتِلَاءُ دِمَاغِهِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - بِنَظَرِيَّاتِ الْكَلَامِ، وَجَدَلِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ، وَغَفْلَتِهِ عَنْ مَعْنَى الْإِلَهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ: قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيْ: قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَأَطْلُبُ لَكُمْ مَعْبُودًا غَيْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، بِمَا جَدَّدَ فِيكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَسُنَّةِ الْمُرْسَلِينَ، فَمَاذَا تَبْغُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ؟ ! وَالِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ لِلْإِنْكَارِ الْمُشَرَّبِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَارُ ابْتِغَاءِ إِلَهٍ غَيْرِ اللهِ الْمُسْتَحِقِّ وَحْدَهُ لِلْعِبَادَةِ، لَا إِنْكَارَ تَسْمِيَةِ الْمَعْبُودِ الْمَصْنُوعِ إِلَهًا، وَ " أَبْغِي " يَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
(٩: ٤٧).
بَدَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَابَهُ لِقَوْمِهِ بِإِثْبَاتِ جَهْلِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ فَسَادِ مَا طَلَبُوهُ، وَكَوْنِهِ عُرْضَةً لِلتَّبَارِ وَالزَّوَالِ، وَبَاطِلًا فِي نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا الطَّالِبُ عَلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ فِيمَا طَلَبَ، وَلَا الْمَطْلُوبُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٢٢: ٧٣) فَهَذَا مُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ.

ثُمَّ انْتَقَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ جَعْلُ الْإِلَهِ لَهُمْ، وَهُوَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَطْلُوبِ لِأَجْلِهِ هَذَا الْجَعْلُ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - وَمُوسَى عَلَى الْحَقِّ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَالَّذِي يُحِقُّ الْحَقَّ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَذَيْنِكَ الْبَاطِلَيْنِ غَايَةُ الْمُبَايَنَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا جَوَابًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِمَا قَبِلَهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ عَطْفًا، وَلَا أَنْ يَعُدَّ مَعَهُ عَدًّا، وَلِهَذَا أَعَادَ فِيهِ كَلِمَةَ (قَالَ) كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَدْ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْأَهَمِّ الْأَفْضَلِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ، فَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ فَغَيْرُ اللهِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ، فَهُوَ يَشْمَلُ أَخَسَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْجَزَهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْأَصْنَامِ، وَيَشْمَلُ أَفْضَلَهَا وَأَكْمَلَهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِيُثْبِتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَخْلُوقٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ عَلَا قَدْرُهُ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَأَنَّ تَجْهِيلَهُمْ بِمَا طَلَبُوا لَا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَالْأَصْنَامِ خَسِيسٌ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّبَارِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ - لَا لِهَذَا فَقَطْ - بَلْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، مَهْمَا يَكُنْ غَيْرُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمُفَضَّلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ عِبَادَةِ الْأَخَسِّ دَلِيلٌ عَلَى مُنْتَهَى الْخِسَّةِ وَالْجَهْلِ، إِذْ لَا شُبْهَةَ تُوهِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِثَابَةِ أَوِ التَّقْرِيبِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَشُبْهَةِ مَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ مَنْ قَصُرَ بِهِ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، مَعَ إِصْرَارِهِ عَلَى خُبْثِهِ وَرِجْسِهِ، جَاهِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْ يَتُوبُوا؛ أَيْ: يَرْجِعُوا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، وَأَنْ يَدْعُوهُ وَحْدَهُ كَدُعَائِهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنْ يَخُصُّوهُ مِثْلَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فِي صَلَاتِنَا بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (١: ٥).
وَبَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ اللهِ إِلَهًا ذَكَرَ مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الْوَاسِطَةَ فِي هَذَا الْجَعْلِ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْجَهْلُ، وَهُوَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَبْغِيكُمْ إِلَهًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْأَمْرِ الْإِمْرِ
وَالشَّيْءِ الْإِدِّ، وَالْمُنْكَرِ الْفَظِيعِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلٌ بِقِيمَتِهِ، وَبِمَعْنَى رِسَالَتِهِ، وَبِمَا رَأَوْهُ مِنْ جِهَادِهِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ لَهُ فِي شَخْصِ أَخِيهِ وَلَا فِي شَخْصِهِ، بَلْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: طَلَبُ إِلَهٍ مَعَ اللهِ، وَكَوْنُهُ بِجَعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ تَبْغُونَ إِلَهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ (١٣: ٨٣).
ثُمَّ أَيَّدَ هَذَا الْإِنْكَارَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَرْقَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَضَارَةِ وَسَعَةِ الْمُلْكِ، وَمِنَ السِّيَادَةِ عَلَى بَعْضِ الشُّعُوبِ، وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْهُمْ، وَتَجْدِيدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِمْ، وَإِيتَائِهِمَا مِنَ الْآيَاتِ