آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ

ويجرون إعرابها على النون بالحركات كحين عند من يعربها، وعليه فإن النون لا تخذف بالإضافة كما جاء أعلاه وعليه قول الشاعر:

دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا
واللغة المشهورة إعرابها بالحروف لأنها من ملحقات جمع المذكر السالم، وتقول العرب مستهم السنة إذا أخذهم الجوع، قال الأبو صيري:
وأحيت السنة الشهباء دعوته حتى حكت غرة بالأعصر الدهم
مطلب ما أوقع الله يفرعون من الآيات:
وهذه أول آية أوقعها الله فيهم وفيها إعلام بأنه لم يمهل فرعون وقومه بعد أن صمّموا على تنفيذ خطتهم القديمة وهو أكرم من ذلك، والآية الثانية قوله «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» من زروعهم وأشجارهم إذ أوقع عليها آفات أفسدتها قال قتادة السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات لأهل المدن «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ١٣٠» أن ذلك بسبب إصرارهم على الكفر وظلمهم لبني إسرائيل علهم يرجعون عما صمموا عليه، لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله فيلجأون إليه،
قال تعالى حاكيا ما وقع منهم بقوله «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ» في خصب وسعة وصحة «قالُوا لَنا هذِهِ» استحقاقا ولم يردوها إلى الله ولم يروها منه «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب وضيق ومرض «يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» من بني إسرائيل فيقولون ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم تشاؤهما بهم، وهذا دليل على أنهم لم يتعظوا ولم ينتبهوا بما صب عليهم من العذاب، أدخل جل شأنه على الحسنة لأن وقوعها كالكائن، ولأن جواب إذا يكون حقيقة غالبا، وإن على السيئة المنكرة لندرة وقوع جوابها إذ قد يكون شكا. قال سعيد بن جبير: عاش فرعون ستمائة وعشرين سنة ملك منها أربعمائة سنة لم ير فيها مكروها قط في بدنه ولا في ماله وملكه فلو جعل له وجع يوم أو حمى ليلة أو جوع ساعة لما ادعى الربوبية، قال تعالى ردا عليهم «أَلا» أداة تنبيه على أن شؤمهم ليس من موسى وأصحابه «إِنَّما طائِرُهُمْ»

صفحة رقم 404

شؤمهم «عِنْدَ اللَّهِ» وحده بسبب كفرهم، وأداة الحصر تشعر بذلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ١٣١» كونه من عند الله لأنهم يضيفون الحوادث للأسباب الظاهرة لا إلى قضاء الله وقدره، وبما أن موسى يحذرهم وينذرهم مقت الله إن لم يطيعوه فيسندوا ما يصيبهم إليه، وتفيد الآية أن بعضهم يعلم حقيقة ذلك ومنهم فرعون ولكن لا يعملون بما يعلمون «وَقالُوا» القبط لموسى بعد انقشاع الآيتين المارتين «مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ» بيان لهما وسموها آية على طريق الاستهزاء تبعا لتسمية موسى سخرية به، ولو اعتقدوها آية لما قالوا «لِتَسْحَرَنا بِها» فتصرفنا عن ديننا بضروب سحرك وإنا إن فعلت ما فعلت «فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ١٣٢» لسحرك ولا مصدقين لأنه زائل، ومهما هذه اسم شرط على الصحيح في الأصل ومحلها رفع الابتداء، وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو كلاهما على اختلاف في ذلك، ويجوز أن تكون ظرفا قال ابن مالك إنه مسموع من العرب وأنشد:

وإنك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
على أنها هنا ظرف بمعنى متى خلافا لمن منع ذلك ولهذا استعملها المنطقيون بمعنى كلما وجعلوها سورا للكلية لإفادتها العموم. أما في الآية فليست ظرفا البتة وأصلها ما الجزائية ضمت إليها ما المزيدة المذكورة للجزاء ثم قلبت ألف ما الأولى هاء لعدم تكرار الحرفين المتجانسين لاستثقاله عندهم فصارت مهما وموضعها النصب بتأتنا، والضمير في به وبها يعودان للآية، وأنت الثاني باعتبار المعنى، فاغتاظ موسى عليه السلام واعترته الحدة، فدعا عليهم لأنهم فضلا عن أنهم لم يتعظوا بالآيات المتقدمة العصا واليد اللتين كسرت شوكتهم وأذلتهم، والقحط والنقص اللذين أوقعا فيهم ما أوقعاه رموه بالشؤم وأيأسوه من الإيمان بدلالة معنى مهما وأفادتها ذلك، فأجاب الله دعاءه بانزال عقاب آخر عليهم وهي الآية الثالثة وتكون الخامسة مع آيتي اليد والعصا بينه بقوله «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ» بأن فجرنا الأرض عيونا وأرسلنا السماء بالمياه الغزيرة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا الى تراقيهم قالوا ولم يدخل بيوت بني إسرائيل شيء منه، مع أنها مختلطة مع بيوتهم ودام ذلك سبعة أيام،

صفحة رقم 405

فمن جلس منهم غرق ومن بقي قائما نجا وبقي معذبا لا يقدر أن يستريح أو يتحرك من موضعه خشية الغرق، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك لئن كشف عنا هذا آمنا بك وأرسلنا معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفعه عنهم وأنبت لهم الكلأ والزرع، وضاعف لهم الثمر بصورة لم يروها قبل، فكلفهم الإيفاء بوعدهم فأبوا وقالوا ما كان ذاك عذابا وإنما هو نعمة، ونكثوا عهدهم وازداد طغيانهم، فدعا عليهم بقوله يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وطغى، وان قومه قد نكثوا العهد، رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث عليهم عذابا سادسا بينه بقوله «وَالْجَرادَ» المعروف فأكل زرعهم وثمارهم وثيابهم وسقوف دورهم، ولم يدخل دور بني إسرائيل، فضجوا إلى موسى وفزعوا لشدة ما حل بهم وأعطوه العهود والمواثيق بأنه إذا كشف عنهم هذا الضر يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل، فدعا ربه فكشفه بعد أن دام سبعة أيام وقبل أن يقضي على البقية الباقية من مواشيهم، فلما كشف عنهم، قالوا بقي لدينا ما يكفينا ما نحن بتاركي ديننا من أجلك ونكثوا عهودهم، فدعا عليهم فأرسل الله عذابا سابعا ذكره بقوله «وَالْقُمَّلَ» القمل المعروف وقيل هو الدّبى أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها وقيل البراغيث أو كبار القراد أو السوس الذي يخرج من الحنطة والحشمان نوع من الجراد أو صغار الذر، وكان الحسن يقرأها بفتح القاف وسكون الميم بما يدل على أنه القمل، وبه قال عطاء الخراساني، فملأ طعامهم وشرابهم وآلمهم بقرحة وأكل منهم شعور رؤسهم وأهدابهم وحواجبهم، ولم يصيب بني إسرائيل شيء منه، فاشتد عليهم البلاء أكثر من ذي قبل، فعجوا إلى موسى واستغاثوا به ووثقوا إليه العهود وعظموا له الايمان بأنه إذا كشف عنهم هذه المرة يؤمنون ولا يعودون إلى الكفر ويرسلون معه بني إسرائيل، وذلك بعد أن دام عليهم سبعة أيام أيضا، فرق لهم موسى ورحمهم ودعا ربه، فكشف عنهم، فلم يبق منه واحدة، فقالوا ما كنا نوقن أنه ساحر مثل اليوم! كيف ذهب ما كنا نراه بكلمة واحدة، ونكثوا عهدهم، ونقضوا أيمانهم، فدعا عليهم، فأرسل عذابا ثامنا بينه بقوله

صفحة رقم 406

«وَالضَّفادِعَ» حيوان معلوم بري وبحري والفرق بينهما وجود غشاء رقيق بين أصابع البحري ليستعين به على العوم في الماء والبري خلو منه لعدم الحاجة، إليه جلت عظمته أعطى كل شيء ما يحتاجه، هدى كل خلقه لمنافعهم وأحسن كل شيء خلقه، فلا نقص ولا اعوجاج فيما خلق فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأوانيهم وأطعمتهم منها، حتى صارت تثب عليهم إذا تكلموا، فتدخل أفواههم، ولم يصب بني إسرائيل شيء منه، لأنه مرسل إلى القبط خاصة والقبط قانعون بأنه معجزة مسلطة عليهم فقط لأنهم يرون أن بني إسرائيل سالمون منه، ولكنهم طغاة معاندون حريصون على بقاء ملكهم مع الكفر لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ودام سبعة أيام أيضا حتى ذاقوا العذاب الأليم والبلاء العظيم فوقعوا على موسى باكين شاكين مستغيثين به قائلين: هذه المرة نتوب ولا نعود أبدا، وأكثروا له من العهود
والمواثيق، وغلظوا له الأيمان بأنه إذا كشفه عنهم يؤمنون ويرسلون معه بني إسرائيل، ولا يعودون الى الكفر فدعى فكشفه عنهم حتى لم تر واحدة منها فقالوا هذا سحر مثل القمل فأين ذهبت هذه الضفادع لو كانت حقيقية؟ ولم ينتبهوا أن الذي أحدثها عليهم بلحظة واحدة قادر على إزالتها عنهم بمثلها، ولكنهم لا يعقلون بقلوبهم ولا يتذكرون ذلك، ونكثوا ونقضوا أيضا، فاشتد غضب موسى عليهم ودعا الله ربه، فأرسل عليهم عذابا تاسعا إذا عد القحط ونقص الثمرات اثنين أما أذاعوا واحدا كما قال قتادة في الآية ٣٠ المارة آنفا فتكون هذه الآية ثامنة وبينها بقوله «وَالدَّمَ» الرعاف كما قاله زيد اني اسلم وقال غيره سال النّيل عليهم دما عبيطا وانقلبت مياه الآبار والعيون وغيرها كذلك على القبط خاصة، حتى أن القبطي والاسرائيلي إذا اجتمعا على ماء واحد فيكون من جهة القبطي دما وما يلي الاسرائيلي ماء، وهكذا إذا تناول القبطي من أمام الاسرائيلي ماء انقلب دما وإذا تناول الاسرائيلي دما من القبطي انقلب ماء، ومع هذا كله لم يعتبروا ولم يجزموا أنه من عند الله، ولكنهم لما يرونه ملازما لهم يراجعون فرعون أولا فيقول لهم سحركم موسى بضروب السحر وقوي عليكم، فيقولوا، له من أين سحرنا

صفحة رقم 407

والأمر كما ترى؟ فيقول اصبروا وكان نفسه يمضغ الأشجار فتعصر في فيه دما، ولكنه لشدة عتوه يتحمل ويمّني قومه لئلا يروا ضعفا فيه، ودام الحال عليهم سبعة أيام ولما لم يروا من فرعون ما ينقذهم وهو يمنّهيم بالصبر، شأن كل مرة، رجعوا الى موسى شاكين باكين متذللين خاضعين، فرقّ لهم لكثرة ما يوثقون له الأيمان فطمع بصدقهم فدعا الله فأزاله عنهم وكذلك لم يؤمنوا لسابق شقائهم مع رؤيتهم هذه المعجزات «آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» واضحات دالات على صدق نبوة موسى وقد ذاقوا عذابها كلها، ولم ينجح بهم، مع انها معجزات لا تحتاج الى فكر وروية ملموسة حسية ظاهرة تبع بعضها بعضا، قالوا وكان بين كل آية وأخرى شهر واحد، مرتبات، كما يستفاد من قوله هنا مفصلات «فَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان بها وبمن أنزلها وأنزلت عليه مع أن كل منها كافية للتصديق والإيمان ولكن ما كان الله ليهدي قوما خلقوا في الأزل ضلالا «وَكانُوا مُجْرِمِينَ ١٣٣» بإصرارهم على الكفر وانفتهم عن الإيمان وبعد أن يكون الإنسان مجرما لم يبق له إلا الحكم عليه، وهكذا إذا أوقع أحد جرما يكون أولا مدعى عليه ثم ظنينا ثم متهما ثم مجرما ثم محكوما، هذا وقد اشتد غضب موسى فدعا عليهم بما ألهمه ربه، فأجاب دعاءه بما ذكره بقوله عز قوله «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» الموت قال سعيد بن حيدر هو الطاعون وهذا هو العذاب الأخير وهو الآية التاسعة على قول قتادة فمات منهم في اليوم الأول سبعون الفا فأمسوا لا يتدافتون روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه. وهذه الرواية الأولى على بنى إسرائيل لا يستدل بها على ما نحن فيه لأن الرجز هذا خاص بالضبط كسائر الآيات المتقدمة أما على الرواية الثانية وهي على من قبلكم فيصلح دليلا لما هنا.
هذا ولما رأو ما حل بهم نسوا فرعون والسحر وعجوا واقعين على الأقدام «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» وأوصاك به من النبوة والمرحمة،

صفحة رقم 408

وهذه الياء للقسم الاستعطافي كذا يستعطفونه عليه السلام وهم باكون ضاجون قائلين والله ربك «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» الموت الذي حل بنا بافترائنا عليك وكذبنا بمواثيقنا ونفقنا عهودنا فالآن وعزة ربك وجلاله «لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ١٣٤» وو الله ربك لا يسعنا بعد هذا إنكار أو تكذيب أو القول بأنه سحر لأنه الموت يا موسى ذقناه ولمسناه هذا، الذي لا رجوع بعده بخلاف الآيات الأول لأنا نراها تزول فتتغير عقب زوالها وتعود الى الكفر وننقض عهودنا ومواثيقنا بسبب رؤيتنا عودة الحالة السابقة إلى طبيعتها، أما الآن فلا وأكثروا من العويل والاستكانة وتمسكوا به خاضعين خاشعين، ولما رأى اعترافهم بالآيات وآنس منهم الصدق في هذه المرة حنّ عليهم وقبل رجائهم فدعى الله مولاه بكشفه عنهم فأجاب دعائه أيضا. قال تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ» أتى بالظاهر موضع المضمر للتأكيد وقد أخرناه «إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ» وهو وقت إغراقهم بالبحر المعلوم وقته عنده والذي هم واصلون اليه لا محالة «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ١٣٥» ما أعطوه من إيمان وعهود ومواثيق، وعاد إلى الطعن والتكذيب شأنهم في كل مرة ولا يقال إن الله تعالى عالم بأن آل فرعون لم يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، فلم والى عليهم هذه المعجزات لأنه نظير قوله جل قوله: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الآية ١٦٤ الآتية.
مطلب جواب الله ورسوله عمّا يقال:
هذا هو جواب الله إلى هذا المعترض وجواب لرسول. هو قوله تعالى: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) يفعل ما يشاء ربكم ما يريد، وهذا جواب أهل السنة والجماعة، أما جواب المعتزلة القائلين برعاية الأصلح إن الله علم من قوم فرعون أن بعضهم يؤمن بتوالي المعجزات وظهورها فلذلك والاها عليهم والله أعلم بمراده وهو قول وجيه لو لم يقترن برعاية الأصلح أي أن فعل الأصلح للعبد واجب على الله عندهم ومذهب أهل السنة والجماعة بخلافه. قال صاحب الجوهرة:

صفحة رقم 409

وقال في بدء الأمالي:

وما قيل إن الصلاح واجب عليه زور ما عليه واجب
وما أن فعل أصلح ذو افتراض على الهادي المقدس ذي التعالي
ومعنى النكث في الأصل فل طاقات الغزل ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه. راجع تفسير الآية ٩١ من بعدها في سورة النمل في ج ٢، وجواب لما مقدر تؤذن به إذا الفجائية أي فاجئوا بالنكث، وما قيل بأن جوابها الجملة المقترنة بها فيه تساهل وتسامح وكلا من لما وإذا معمول لذلك الفعل المقدر الأولى ظرفه والثاني مفعوله وذلك محافظة لما ذهبوا اليه من أنه يجب أن يكون الذي يلي لما من الفعلين ماضيين لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا الفجائتين في موقع المفعول به للفعل لأن لما تجاب بإذا الفجائية الداخلة على الجملة الاسمية فلا لزوم إلى هذا التكليف بتقدير الفعل قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» أي فرعون وقومه ومناصريه جزاء نكثهم المترادف «فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ» معظم ماء البحر وسلبنا نعمتنا منهم وأهلكناهم. قال ابن قتيبة: اليم سرياني معرب وما قيل إنه أسم خاص للبحر الذي غرق فيه فرعون وقومه ليس بشيء، قال الألوسي في روح المعاني إن هذا القول غريق في يم الضعف وإنما جعلنا هذا الإغراق عقوبة لهم «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ١٣٦» لاهين لاعبين لم يتفكروا بمن أظهرها ولم يتذكروا بها ولم يبالوا بمن أنزلها وأنزلت عليه ولم يتعظوا بنزول النقمة بهم المسببة عن الأعراض عن تلك الآيات وعدم التفاتهم إلى زجر نبيّهم واعراضهم عما يؤول اليه أمرهم واتباع من كان السبب فيها، فكأنها لم تكن، والغفلة ليست من فعل الإنسان، على أن من شاهد مثل تلك الآيات لا ينبغي له التكذيب بل التصديق والانقياد قال تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ» أي يستذلون ويسترقون ويهانون وهم بنوا إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة ولا أعظم من هذا اهانة وهوانا فجعلنا نحن إليه الكل من الذكور الذين كانوا مملوكين ملوكا وأنبياء وملكناهم «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» اي جهاتها بما فيها بيت المقدس ومصر والشام وهذا أولى من الاقتصار على ارض

صفحة رقم 410

مصر التي كانوا فيها عبيدا هم ونساؤهم، وهذه الأرض هي «الَّتِي بارَكْنا فِيها» بكثرة الثمار والزروع والأشجار والخصب وسعة الرزق وكونها مساكن الأنبياء والصالحين ومرقدهم، وكلها كانت داخلة في ملك داوود وسليمان وهما من بني إسرائيل ولم يقتصر ملكهما على مصر والشام بل بيت المقدس وما حواليه واليمن وغيرها هذا، وقد جاء في فضل الشام أحاديث كثيرة اخترنا منها ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال: ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
واخرج ابن عساكر عن حمزة ابن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها اسرى به إليها. وهذا مؤيد بإسراء حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم ومهاجرة ابراهيم ولوط عليهما الصلاة السلام، لانهم ليسوا منها.
مطلب ما جاء في مدح الشام:
واخرج احمد عن عبد الله بن خولة الأزدي أنه قال يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه، قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده. واخرج ابن عساكر عن واثلة ابن الأصقع قال: سمعت رسول الله يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من عباده. وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام. وجاء من حديث أحمد والترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم أيضا عن زيد بن ثابت أنه صلّى الله عليه وسلم قال: طوبى، للشام، فقيل له ولم؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها. هذا، والأحاديث في فضل الشام كثيرة، إلا أن فيها مقالا فمنها الضعيف والمنكر والموضوع، وسبب وضع بعضها ما كان يتملّق به بعض المنافقين زمن الأمويين، والشام اسم للاقليم المعروف من حدود الحجاز إلى الترك، ومن مصر إلى العراق، قال في القاموس الشام بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا أي تياسروا إليها ولأنها مساكن سام بن نوح وأن السين تقرأ بالعبرية شينا. أخرج ابن ابي لحاتم عن ابي الأعمش وكان قد أدرك أصحاب رسول الله أنه سئل عما بورك من الشام، أي مبلغ حده فقال: أول حدوده

صفحة رقم 411

عريش مصر، والحد الآخر طرف الثنية، والحد الآخر الفرات، والحدّ الآخر جعل فيه قبر هود عليه السلام. وان دمشق أو جلق المعروفة الآن بالشام فهي داخلة هذا الإقليم، وفيها خاصة ما قاله بعضهم:
دمشق غدت جنة للورى... زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي... ولا عيب فيها سوى أهلها
وقال آخر:
تجنب دمشق ولا تأتها... وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق... وفجر الفجور بها ساطع
وهذا القائل تشابه قلبه مع قلب من حرّف ما كتب على معرض دمشق عام ١٩٣٤ عبارة معرض دمشق وسوقها بعبارة: معرص دمشق وفسوقها، وهكذا قلوب المنافقين تتشابه كقلوب الكافرين ألا تراهم على وتيرة واحدة في أفكارهم ومداهنتهم راجع الآية ١١٨ من البقرة في ج ٣. وقال آخر:
قيل ما يقول في الشام حبر... شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول فى وصف أرض... هي في وجنة المحاسن شامه
وفي الحقيقة هي الآن قبة الإسلام ومعهد العلوم وباب التقوى ومعدن حلق الذكر وتداول كتاب الله ومركز أهل الفضل والصلاح وكنانة الله في أرضه وملاك الخيرات. أما ما يتفوه به بعضهم فله نوع من الصحة لأنها بلدة عظيمة فيها الغث والسمين، وكل يعمل على شاكلته:
(لكل امرئ في دهره ما تعودا)... (وكل إناء بالذي فيه ينضح)
والطيور على أشكالها تقع، فنسأل الله أن يولي الأمور خيارها ويوفقهم وسائر المسلمين لإزالة ما وصمهم به عدوهم، قال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى» التي هي النصر على العدو وانجاز الوعد بتمكينهم في الأرض واستخلافهم فيها وتلك منّة جلّى «عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» من الله إذ ذاك، أما الآن فنسأله بحرمته أن يدمرهم ويذيقهم أشد ما لاقاه آباؤهم ويطهر الأرض المقدسة منهم ويولي عليهم من يعيد لهم زمن فرعون إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، لأنهم لم يقدروا

صفحة رقم 412

نعم الله الذي جعلهم بعد الرق أحرارا وبعد الذل أعزاء وجعل منهم ملوكا وأنبياء بعد العبودية «بِما صَبَرُوا» اولا على الأذى والقتل والأسر، إعادة الله عليهم وذلك لأنهم انتظروا وعد نبيهم موسى عليه السلام بالفرج الذي مناهم به أربعين سنة، ولا شك أن الانتظار أشد من النار، قال تعالى «وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ» من البنايات العالية والقصور الشامخة في مصر وغيرها «وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ١٣٧» من الكرم وغيره في الجنان، وجاز ضم راء يعرشون والكسر أفصح، وقد حصل هذا التدمير باغراقهم بالبحر وتركهم ديارهم وجناتهم وبالطوفان الذي أوقعه الله عليهم المنوه به في الآية ١٢٣ المارة، وهذا آخر ما قصه الله علينا في هذه السورة بما جرى بين فرعون وموسى، وانظر ما يقصه الله علينا مما أحدثه بنو إسرائيل بعد ألطاف الله عليهم التي يجب أن يقابلوها بالشكر، قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» بعد انجائهم منه وإغراق فرعون وقومه وخلفناه وراء ظهورهم وأمنوا من كيد فرعون وقومه الذي قطع أمعاءهم كما سيأتي في القصة مفصلا بالآية ٥٣ من سورة الشعراء الآتية «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ» قال قتادة هم طائفة من لخم كانوا نزولا على الرقة أي ساحل البحر لا الرقة التي على شاطىء الفرات من أعمال دير الزور، ولعلها سميت رقة لهذا السبب أيضا، وقال غيره هم الكنعانيون الذين أمر الله موسى بقتالهم ولما رأوهم «قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» تماثيل من الأصنام وكانت على صورة البقر أي ليعبدوها مثلهم، قاتلهم الله استحسنوا عمل أولئك الكفرة وطلبوا مثله ولم وتجفّ أقدامهم بعد من انجائهم من البحر «قال» موسى زجرا لهم وتعجبا من حالهم وقولهم هذا بعد رؤية تلك الآيات التي خلصتهم من عبودية القبط وأهلكت أعداءهم دونهم على مرأى منهم، إذ كانوا في البحر جميعا، وصادف خروج آخر واحد منهم دخول آخر واحد من القبط فيه، ولما رأى عليه السلام طيشهم هذا «قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ١٣٨» عظمة الله وقوة سلطانه ولا تقدرون نعمه، أتريدون أن تشركوا بالله وتكفروا نعمه بعد أن نجاكم

صفحة رقم 413
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية