آيات من القرآن الكريم

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

وَاحِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيُرَجِّحُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَكْثِهِمْ بِصِيغَةِ
الْمُضَارِعِ (يَنْكُثُونَ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ.
وَمَعْنَى النَّظْمِ الْكَرِيمِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الْبِئْرِ الْبَعِيدَةِ الْقَعْرِ، وَحَاصُوا حَيْصَةَ الْحُمُرِ فَوَقَعُوا فِي حَيْصَ بَيْصَ - وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِالرِّجْزِ - قَالُوا عِنْدَ نُزُولِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ بِهِمْ: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاسْأَلْهُ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ مِنْ أَمْرِ إِرْسَالِكَ إِلَيْنَا؛ لِإِنْقَاذِ قَوْمِكَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، فَالنُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ عَهْدٌ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ (٢: ١٢٤) أَوِ ادْعُهُ بِالَّذِي عَهِدَ بِهِ إِلَيْكَ أَنْ تَدْعُوهُ بِهِ فَيُعْطِيكَ الْآيَاتِ وَيَسْتَجِيبُ لَكَ الدُّعَاءُ - أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ، وَنَحْنُ نُقْسِمُ لَكَ لَئِنْ كَشَفْتَهُ عَنَّا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ تَعَالَى:
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ أَيْ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ، وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا - وَهُوَ عَوْدُ الْحَالِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ - أَوْ فِي مَجْمُوعِهَا، وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي هَلَكُوا فِيهِ، إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ عَهْدَهُمْ، وَيَحْنَثُونَ فِي قَسَمِهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ أَيْ: فَاجَئُوا بِالنَّكْثِ، وَبَادَرُوا إِلَى الْحِنْثِ، بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا رَيْثٍ، وَأَصْلُ النَّكْثِ فِي اللُّغَةِ نَقْضُ مَا غُزِلَ أَوْ مَا فُتِلَ مِنَ الْحِبَالِ؛ لِيَعُودَ أَنْكَاثًا وَطَاقَاتٍ مِنَ الْخُيُوطِ كَمَا كَانَ، وَالْأَنْكَاثُ مَا نُقِضَ مِنَ الْغَزْلِ لِيُغْزَلَ ثَانِيَةً: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (١٦: ٩٢).
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ أَيْ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهُمْ بِأَنْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ - وَهُوَ الْبَحْرُ فِي اللُّغَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْعَرَبِيَّةِ فِي الْأُلُوفِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا " وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى النِّيلِ وَغَيْرِهِ - وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى انْتَقَمْنَا تَفْسِيرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ (١١: ٤٥) وَعَلَّلَ هَذَا الِانْتِقَامَ كَمَا عَلَّلَ أَمْثَالَهُ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَتَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْتَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ
تَكْذِيبَ الْوَاحِدَةِ كَتَكْذِيبِ الْكَثِيرِ، وَيَقْتَضِيهِ بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، كَمَا أَنَّ تَكْذِيبَ أَحَدِ الرُّسُلِ كَتَكْذِيبِ الْجَمِيعِ إِذَا كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَتِهِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَوْنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا جَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا فَلِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَمَّا عَطْفُ الِانْتِقَامِ بِالْفَاءِ فَلَيْسَ

صفحة رقم 83

تَعْلِيلًا آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْقِيبٌ عَلَى كَوْنِهِ وَقَعَ بَعْدَ التَّكْذِيبِ بِتِلْكِ الْآيَاتِ كُلِّهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ ثُمَّ يُكَذِّبُونَ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا كُلِّهَا، وَكَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا تَقْتَضِيهِ وَتَسْتَلْزِمُهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِذْ كَانَتْ فِي نَظَرِ أَكْثَرِهِمْ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالصِّنَاعَةِ، وَكَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِيهِمَا الْغَايَةَ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي كُلِّ آيَةٍ، وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَأْتِيَ سَحَرَتُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمِثْلِهَا، وَيَحْمِلُونَ عَجْزَهُمْ عَلَى تَفَوُّقِ مُوسَى عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَيُعُدُّونَ إِسْنَادَهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِهِمُ الْأُمُورَ إِلَى آلِهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِحَسَبِ التَّقَالِيدِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ حُكَمَاؤُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِ خُضُوعِ عَامَّةِ الشَّعْبِ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ دَلَالَةُ آيَاتِ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ جَهْرًا كَكِبَارِ السَّحَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فَكَتَمَ إِيمَانَهُ كَالَّذِي عَارَضَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فِي قَتْلِ مُوسَى بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ - كَمَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَمِنْهُمْ مَنْ جَحَدَ بِهَا لِمَحْضِ الْعُلُوِّ وَالْكِبْرِيَاءِ، كَفِرْعَوْنَ وَأَكَابِرِ الْوُزَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي مُجَارَاةِ الْحُكُومَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لِلْعَوَامِّ عَلَى خُرَافَاتِهِمْ أَنَّ حُكُومَاتِ هَذَا الْعَصْرِ تُوَافِقُ الْعَامَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ. كَمَا تَفْعَلُ الْحُكُومَةُ الْمِصْرِيَّةُ فِي بَعْضِ الِاحْتِفَالَاتِ الْمَوْسِمِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ كَالْمَوَالِدِ بِالتَّبَعِ لِجُمْهُورِ الشَّعْبِ مِنْ كِبَارِ عُلَمَائِهِ إِلَى أَجْهَلِ عَوَامِّهِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي يُعَدُّ مُسْتَحِلُّهَا مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَالْجُمْهُورُ غَافِلُونَ عَنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ بِالِاحْتِفَالِ بِهَا، وَشَدِّ الرَّحَالِ إِلَيْهَا، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ فِي سَبِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ كُبْرَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَإِبْطَالِ دُرُوسِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا لِأَجْلِهَا، كَالْمَسْجِدِ الْأَحْمَدِيِّ فِي طَنْطَا، وَالْمَسْجِدِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ فِي دُسُوقَ، وَأَنَّ أَكْبَرَ ضَرَرِهَا تَشْوِيهُ الْإِسْلَامِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أُولِي الْعُلُومِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ حَتَّى كَثُرَ فِيهِمُ الْمُرْتَدُّونَ عَنْهُ، وَصَدُّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ
الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا عُرْفُ الْأُمَمِ أَنَّ دِينَ كُلِّ قَوْمٍ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالشَّعَائِرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنَّا إِقْنَاعُ بَعْضِ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْمُقَرَّرِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَالسُّنَّةِ السُّنِّيَّةِ، وَتَنَزُّهِهِ عَنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَاقْتَنَعُوا بِأَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ لَهُمْ حَقٌّ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِأَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ نَقَلْتُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِنْجِلِيزِ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِي: إِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَا ذَكَرْتَ فَأَنَا مُسْلِمٌ، وَكَانَ نَعُوم بِك شَقِير الْمُؤَرِّخُ السُّورِيُّ يَقُولُ لِي: اكْتُبْ عَقِيدَتَكَ، وَأَنَا أَمْضِي عَلَيْهَا بِخَطِّي أَنَّهَا عَقِيدَتِي.

صفحة رقم 84
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية