
ولقد فرق المفسرون «١» عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وبعض علماء التابعين في الموقف الواجب وقوفه من كل من الكافرين والمنافقين بحيث تكون مجاهدة الكافرين بالسيف والمنافقين بالحجة والغلظة في التنديد والتثريب. مع أنه ليس في الآية ما يسوغ هذا التفريق ولا سيما أنها جعلت مصير الفريقين الأخروي واحدا.
ويتبادر لنا أن هذا التفريق مستلهم من موقف النبي ﷺ من المنافقين حيث لم ير قتالهم وقتلهم لاعتبارات عديدة منها أنهم كانوا مسلمين في الظاهر يقرون بوحدانية الله ورسالة رسوله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويشتركون في الحركات الجهادية على ما شرحناه في سياق تفسير سور البقرة والأحزاب والنساء. وقد يكون هذا في محله والله أعلم.
وعلى ضوء ما شرحناه في مناسبات سابقة فإن كان الجهاد المأمور به النبي الكفار يعني القتال فإنه يكون بالنسبة للأعداء منهم دون المسالمين. أما إذا كان يعني بذل الجهد في الإنذار فيصح أن يكون الأمر واردا بالنسبة لجمع الكفار وبالنسبة للمنافقين معا.
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١٠ الى ١٢]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢).

تعليق على الآية ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين
الآيات تحتوي تذكيرا بحالة ثلاث فئات من النساء ومصائرهن:
(١) فالفئة الأولى كافرات في عصمة مؤمنين صالحين. والمثال عليها امرأتا نوح ولوط. فقد خانتا زوجيهما وكفرتا فلم تنفعهما زوجيتهما بنبي ولم يغن زوجاهما عنهما من الله شيئا. وحقّت عليهما النار في جملة من حقت عليه.
(٢) والثانية مؤمنة في عصمة كفار متمردين على الله. والمثال على ذلك امرأة فرعون. فقد آمنت وأنابت إلى الله واستنكرت ظلم فرعون وكفره ودعت الله بأن ينجيها منه من تبعة عمله وبأن يكون لها بيت عنده في الجنة. وينطوي في هذا تقرير كون زوجيّتها لفرعون لم تضرّها وكونها نالت من الله الرضاء وحسن الجزاء.
(٣) والثالثة مؤمنة لم ترتبط بعصمة الرجال. والمثال عليها مريم ابنة عمران. فقد آمنت بالله وكتبه وخضعت له واعتصمت به. وأحصنت فرجها فكرمها الله بأن نفخ فيه من روحه. وينطوي في ذلك أيضا تقرير كونها نالت رضاء الله عنها.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها متصلة بموضوع آيات السورة وخاصة بفصلها الأول صلة تمثيل وتذكير لنساء النبي ﷺ اللائي صدر من بعضهن ما صدر، وأنه أريد بها كما تلهمه تقرير كون رابطتهن الزوجية بالنبي ﷺ ليس من شأنها وحدها أن تنجيهن من عذاب الله أو تضمن لهن رضاءه وأن هذا وذاك متوقف على عملهن وسلوكهن.
والإطلاق في الآيات يجعل العظة التي استهدفتها والأمثال التي ضربتها والتذكير الذي ذكرت به موجها إلى عموم المسلمين ومستمر التلقين. وخاصة في صدد كون المرء لا ينجيه إلّا عمله مستقلا عن أية رابطة تربطه بغيره.

ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني ما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة.
ومع خصوصية الآيات ومناسبتها الموضوعية فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك. وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.
وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات. والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون «١» عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرّت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثّرت أقوالها فيها وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون وأعلنت إيمانها بربّ هارون وموسى. وأن فرعون عذّبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى حيث يدلّ هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن.
أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل

والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك. وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا حيث جاء في الإصحاح (١٩) أنها التفتت وراءها فصارت قضيب ملح.
ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله ﷺ والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى.
ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة وذكر ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله لها ونفخه فيها من روحه وجعلها وابنها آية للعالمين. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار.
استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه
غير أننا رأينا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه. لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها. ففي الإصحاح (٦) من إنجيل مرقس هذه العبارة (أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب ويوسى ويهوذا... ! وليست إخوانه هاهنا عندنا) وفي الإصحاح (٨) من إنجيل لوقا هذه العبارة (وأقبلت أمه وأخوته فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع. فأخبر وقيل له إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذ كان يوسف رجلها صديقا ولم يرد أن يشهرها همّ بتخليتها سرّا. وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم فإن المولود إنما هو من روح القدس. وستلد ابنا فتسميه يسوع. لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم. فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الربّ. فأخذ امرأته. ولم

يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع). وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات انجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة [١١٥] والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء [١٨٠] الذي يفيد أنهم قصدوا القول إن عيسى كان ولد زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن.
وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها وولدت عيسى وكفى. ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل. وله أن لا يصدقه أيضا. وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.

سورة التغابن
في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السموات والأرض لله.
وإشارة إلى خضوع كل شيء له. ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه. وتذكير بالكافرين السابقين ونكال الله فيهم. وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به. وتوطيد لواجب الطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله.
وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك.
والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها. غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية. ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه. وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني والله أعلم.
وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية تذكر أن الآيات [١٤- ١٦] مدنية «١».
وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد.
وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه. وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى «٢» والله أعلم.
(٢) انظر كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩ وتفسير الزمخشري.