
١٣٤٠٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى"، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا، (١) فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، (٢) واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم، فأعرض عنهم، فإني لهم بالمرصاد، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:-
١٣٤٠١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ﴿وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا﴾، قال: كقوله: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾، [سورة المدثر: ١١].
١٣٤٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
(٢) انظر تفسير"اللعب" فيما سلف ١٠: ٤٢٩، ٤٣٢.

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، [سورة التوبة: ٥]. وكذلك قال عدد من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٤٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة:"وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا"، ثم أنزل في"سورة براءة"، فأمر بقتالهم.
١٣٤٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة:"وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا"، ثم أنزل الله تعالى ذكره"براءة"، وأمر بقتالهم فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، [سورة التوبة: ٥].
* * *
وأما قوله:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه (١) =" أن تبسل نفس"، بمعنى: أن لا تبسل، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، [سورة النساء: ١٧٦]، بمعنى: أن لا تضلوا (٢) = وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق، (٣) فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار= ولكن حذفت"لا"، لدلالة الكلام عليها.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أن تبسل نفس".
فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.
(٢) انظر ما سلف ٩: ٤٤٥، ٤٤٦.
(٣) في المطبوعة: "وذكر به"، وأثبت ما في المخطوطة.

* ذكر من قال ذلك:
١٣٤٠٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة قوله:"أن تبسل نفس بما كسبت"، قال: تُسلم.
١٣٤٠٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن:"أن تبسل نفس"، قال: أن تُسلم.
١٣٤٠٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن، مثله.
١٣٤٠٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أن تبسل"، قال: تسلم.
١٣٤٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أن تبسل نفس"، قال: تسلم.
١٣٤١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا، أسلموا.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٤١١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"أن تبسل نفس"، قال: تؤخذ فتحبس.
١٣٤١٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
١٣٤١٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في

قوله:"أن تبسل نفس بما كسبت"، أن تؤخذ نفس بما كسبت.
* * *
وقال آخرون: معناه: تُفضَح.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٤١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، يقول: تفضح.
* * *
وقال آخرون: معناه: أن تجزَى.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٤١٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي:"أن تبسل"، أن تجزَى.
* * *
وأصل"الإبسال" التحريم، يقال منه:"أبسلت المكان"، إذا حرّمته فلم يقرب، (١) ومنه قوله الشاعر: (٢)
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى، | بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلامَتِي وَعِتَابِي (٣) |
(٢) هو ضمرة بن ضمرة النهثلي.
(٣) نوادر أبي زيد: ٢، الأمالي ٢: ٢٧٩، الشعر والشعراء: ٢٥٠، الوحشيات رقم: ٤٢٤، الأزمنة والأمكنة ١: ١٦٠، اللسان (بسل) وغيرها، وبعد هذا البيت من أبيات حسان: قالها لامرأته إذ عاتبته على حلب إبله ونحرها لضيفه وأهله، وتحبب إليه الشح، وتنهاه عن بذل المال، في القحط والجدب:
أَأَصُرُّهَا، وَبُنَيُّ عَمِّي سَاغِبٌ | فَكَفَاكِ من إبَةٍ عَلَيَّ وَعَابِ! |
وَلَقَدْ عَلِمْتُ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ | أَنْ سَوْفَ يَخلِجُني سَبيلُ صِحَابِي |
أرَأيتِ إنْ صَرَخَتْ بِلَيْلٍ هَامَتي | وَخَرَجْتُ مِنْهَا عَارِيًا أثْوَابِي |
هَلْ تَخْمِشَنْ إبِلِي عَلَيَّ وُجُوهَهَا | أمْ تَعْصِبَنَّ رُؤُوسَهَا بِسِلاَبِ!! |

أي: حرام [عليك ملامتي وعتابي]. ومنه قولهم:"أسد باسل"، (١) ويراد به: لا يقربه شيء، فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال:"أعط الراقي بُسْلَتَه"، (٢) يراد بذلك: أجرته،"وشراب بَسِيل"، بمعنى متروك. وكذلك"المبسَلُ بالجريرة"، وهو المرتهن بها، قيل له:"مُبْسَل"، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:
وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ | بَعَوْنَاهُ وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ (٣) |
(٢) في المطبوعة: "بسيلته"، وهو خطأ صرف، صوابه في المخطوطة، لم يحسن قراءتها. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٣٩.
(٣) نوادر أبي زيد: ١٥١، مجاز القرآن ١: ١٩٤، المعاني الكبير: ١١١٤، واللسان (بسل) (بعا)، يقول:
فَلَوْلا أَنَّنِي رَحُبَتْ ذِرَاعِي | بِإعْطَاءِ المَفَارِقِ والحِقَاقِ |
وَإنْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ | بَعَوْنَاهً، وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ |
لَقِيتُمْ مِنْ تَدَرُّئِكُمْ عَلَيْنَا | وَقَتْلِ سَرَاتِنَا ذَاتَ العَرَاقِي |

وقال الشنفرى: (١)
هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي | سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلا بِالْجَرَائِرِ (٢) |
* * *
(٢) ديوانه (الطرائف) : ٣٦، وفيه المراجع، ومجاز القرآن ١: ١٩٥، اللسان (بسل). وقبله، وهي أبيات مشهورة:
لا تَقْبُرُونِي، إنَّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ | عَلَيْكُمْ، وَلِكنْ أبْشِرِي أمَّ عامِرِ |
إذَا احْتَمَلُوا رَأْسِي، وَفِي الرّأسِ أكْثَرِي، | وَغُودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِري |
(٣) انظر تفسير"كسب" فيما سلف ص: ٢٦١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ١١: ٤٨٦، وفهارس اللغة (دون).
(٥) انظر تفسير"شفيع" فيما سلف ص: ٣٧٣: تعليق ٤، والمراجع هناك.

القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت، يعني:"وإن تعدل كل عدل"، يعني: كل فداء.
* * *
يقال منه:"عَدَل يعدِل"، إذا فدى،"عَدْلا"، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، [سورة المائدة: ٩٥]، وهو ما عادله من غير نوعه. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٤١٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها.
١٣٤١٧ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها.
١٣٤١٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها"، قال:"وإن تعدل"، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها ="لا يؤخذ منه"، عدلا عن نفسه، لا يقبل منه.
* * *
وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة. (٢)
(٢) هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ١٩٥.

وليس لما قال من ذلك معنى، وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم، هم"الذين أبسلوا بما كسبوا"، يقول: أسلموا لعذاب الله، فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، (١) ="لهم شرابٌ من حميم".
* * *
و"الحميم" هو الحارّ، في كلام العرب، وإنما هو"محموم" صرف إلى"فعيل"، ومنه قيل للحمّام،"حمام" لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش:
فِي كُلِّ مُمْسًى لَهَا مِقْطَرَةٌ | فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (٢) |
(٢) المفضليات: ٥٠٥، واللسان (قطر) (حمم)، وسيأتي في التفسير ١١: ٦١ (بولاق). من قصيدته في ابنة عجلان، جارية صاحبته فاطمة بنت المنذر، وكان لابنه عجلان قصر بكاظمة، وكان لها حرس يجرون الثياب كل ليلة حول قصرها، فلا يطؤه إلا بنت عجلان. وكانت تأخذ كل عشية رجلا من أهل المال يبيت عندها، فبات عندها المرقش ليلة، وقال ذاك الشعر، فوصفها بالنعمة والترف. و"المقطرة": المجمرة، يكون فيها القطر (بضم فسكون)، وهو العود الذي يتبخر به. و"الكباء": ضرب من العود. يصف ما هي فيه من الترف، بين تبخر بالعود الطيب، وتنزه بالاستحمام بالماء الساخن، من شدة عنايتها ببدنها.

تَأبَى بِدِرَّتِهَا إذَا مَا اسْتُضْغِبَتْ | إلا الْحَمِيمَ فَإنّهُ يَتَبَضَّعُ (١) |
* * *
وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم، لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم، ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش ="وعذاب أليم"، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم ="بما كانوا يكفرون"، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه.
* * *
١٣٤١٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا"، قال يقال: أسلموا.
١٣٤٢٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" أولئك الذين أبسلوا"، قال: فُضحوا.
١٣٤٢١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا"، قال: أخذوا بما كسبوا.
* * *