آيات من القرآن الكريم

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ

تحققت معجزة الآية بما كان من هلاك رؤساء الكفار الذين ظلوا مصرين على العناد والتكذيب والمناوأة في وقعة بدر الكبرى.
ولقد روى ابن كثير عن زيد بن أسلم «أن النبي ﷺ قال لأصحابه حينما نزلت الآية السابقة لهاتين الآيتين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف قالوا له ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال نعم فقال بعضهم هذا لا يكون أبدا يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فأنزل الله الآيتين». وهذا لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة وعبارة الآيتين تسوغ التوقف فيها بكل قوة فلا يمكن أن تكون أولاهما عنت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أن الآيتين منسجمتان موضوعيا في السياق السابق واللاحق. ويظل شرحنا هو الأوجه الذي يستفاد أيضا من شروح غير واحد من المفسرين والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم إن جملة قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ قد نسخت بآيات القتال، وهذا يتكرر في كل مناسبة مماثلة وهذا إنما يصح في حالة إذا رافق موقف الكفار والمكذبين طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة (الكافرون).
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
(١) يخوضون: أصل معنى الخوض العبور في الماء ثم استعير للتعبير عن الدخول في الحديث والإفاضة فيه. ويستعمل على الأغلب في الإفاضة في الجدل والعبث والباطل من الكلام.

صفحة رقم 108

(٢) الإبسال: قيل إنها بمعنى الهلاك. وقيل إنها بمعنى الارتهان والحبس، وهي هنا بالمعنى الأول.
(٣) وإن تعدل كل عدل: بمعنى وإن تفتد بكل فدية.
في الآيات نهي للنبي ﷺ عن مجالسة الكفار إذا ما سمعهم ورآهم يخوضون في آيات الله خوضا خارجا عن حدود الأدب والحق. وإذا أنساه الشيطان ذلك ثم ذكر النهي فليبادر إلى ترك مجلسهم، وتقرير بأن المتقين لا يتحملون إثم الكفار في عملهم ولكن النهي تذكير لهم ليبتعدوا عن مجالس الظالمين الآثمين.
وأمر للنبي ﷺ بألا يهتم للذين غرتهم الحياة الدنيا وما تيسر لهم فيها من مال وقوة ورغد عيش وجعلوا الدين لعبا ولهوا، وأن يتركهم ويكتفي بتبليغ رسالته وإنذار الناس حتى لا يهلكوا أنفسهم ويصبحوا رهينة بما كسبوا يوم لا يكون لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يؤخذ منهم فدية مهما عظمت حيث يعذبون أشد العذاب مع شرب الماء الحار جدا جزاء ما كانوا يقترفون ويفترون.
تعليق على آية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
ولقد روى الطبري أن المشركين كانوا يجلسون إلى النبي ﷺ يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت الآية الأولى. وروى الطبرسي والبغوي والخازن أن المسلمين قالوا حينما نزلت هذه الآية: كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ونخاف أن نتركهم ولا ننهاهم! فنزلت الآية الثانية.
ويتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها وانسجام الآيتين الأوليين بالآيات التالية لها أن الآيات وحدة مترابطة، وأنها استمرار للسياق المستأنف في حكاية مواقف الكفار، وأن النبي ﷺ كان يتأذى من استهزاء الكفار- الذين يجلس إليهم

صفحة رقم 109

ويجلسون إليه- بالقرآن الذي يتلوه عليهم، وبالمواعظ والنذر التي يوجهها إليهم، ويتحرج من ترك مجالستهم وإهمال إنذارهم، فنزلت الآيات تسلية له ورفعا للحرج عنه وبيانا لمدى مهمته ومسؤوليته وإنذار للكفار في الوقت نفسه.
ومع أن الخطاب في الآية الأولى قد يكون منصرفا إلى النبي ﷺ بقرينة ضمير المخاطب المفرد فإن نص الآية الثانية يسوغ القول بأن الحظر الذي احتوته الآية الأولى ليس خاصا بالنبي ﷺ وإنما هو عام للمسلمين. وقد يكون من دعائم ذلك آية سورة النساء هذه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [١٤٠] حيث احتوت الآية إشارة إلى آيات الأنعام التي نحن في صددها.
ويلحظ أن النهي محدود بوقت الخوض وبمن يقترفونه، وهو المتسق مع مهمة الرسول ﷺ والمؤمنين التبشيرية.
ولقد تكررت الآيات المكية التي فيها إشارة إلى خوض الكفار والمشركين والمنافقين منها آية في سورة المدثر التي سبق تفسيرها وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وآية في سورة الطور الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) وآية في سورة الزخرف فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وآية أخرى في سورة الأنعام ستأتي بعد قليل، حيث يبدو من هذا أن ذلك كان من ديدنهم ومن جملة الصور التي كانوا يواجهون بها دعوة النبي ﷺ وآيات القرآن، مع التنبيه إلى أن آية النساء التي أوردناها قد نزلت بخاصة في خوض المنافقين على ما يتبادر من سياقها، على ما سوف يشرح في مناسبته.
ولقد قال بعض المفسرين «١» إن آية النساء المذكورة قد نسخت هذه الآية ولسنا نرى في آية النساء نسخا بل نرى توكيدا. فآية الأنعام لم تسمح بالقعود مع

(١) انظر تفسير الخازن.

صفحة رقم 110

الخائضين وإنما تسامحت في نسيان أمر الله بذلك وأوجبته في حالة التذكر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية قد نسخت بآيات القتال، وهذا صواب إذا كان الخوض طعنا في الدين وفي الله وكتابه ورسوله. فكل هذا صار من مستوجبات القتال بعد الهجرة على ما جاء في آية سورة التوبة هذه: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) وهذه الحالة هي غير حالة الأمر بالصبر على الكفار والإعراض عنهم الذي تكرر في سور مكية عديدة وقال بعض المفسرين إنه نسخ بعد الهجرة بآيات القتال. فإن هذا إنما يصح إذا رافق موقف الكفار طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة الكافرون.
ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى في حظر مجالسة الهازئين الطاعنين في دين الله ورسله وكتبه والخائضين في مواضيع خارجة عن الأدب والحق كما هو المتبادر. فضلا عن كون الهزء والطعن في الدين من موجبات الجهاد على المسلمين على ما ذكرناه آنفا.
تعليق على جملة وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم
ولقد وقف بعض المفسرين «١» عند هذه الجملة وتساءلوا عن جواز النسيان على النبي ﷺ ثم جواز تأثره بالشيطان. والآية صريحة بجواز النسيان عليه، وعلى غيره من الأنبياء. وفي القرآن آيات عديدة أخرى تؤيد ذلك. مثل آية الكهف هذه التي يخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [٢٤] وآية طه [١١٥] بالنسبة لآدم وآية الكهف [٦٢] بالنسبة لموسى. وقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالدعاء لله بأن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا في الآية الأخيرة من سورة البقرة.

(١) انظر تفسير الخازن.

صفحة رقم 111

وهو منبثق من طبيعة الأنبياء البشرية. وهناك أحاديث عديدة عن نسيان النبي ﷺ منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله «أنّ رسول الله ﷺ صلّى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة، فقال وما ذاك؟ قال صلّيت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلّم وفي رواية قال أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو» «١».
ويتبادر لنا أن نسبة الإنساء للشيطان في الجملة هو تعبير أسلوبي أو هو وسوسة الشيطان التي تجوز على كل إنسان، وهي ليست من قبيل سلطان الشيطان الذي نبهت آيات عديدة على أن ذلك ليس واردا بالنسبة لعباد الله المخلصين الذين يأتي النبي ﷺ في مقدمتهم.
وإنساء الشيطان أيسر من نزغ الشيطان، ومع ذلك ففي آية سورة الأعراف التي سبق تفسيرها ما يجعل النزغ الشيطاني جائزا بالنسبة للنبي ﷺ على ما شرحناه في سياقها. وجواز السهو والنسيان على النبي ﷺ إنما يحتمل في الشؤون البشرية والدنيوية. أما الشؤون الدينية والتبليغ عن الله تعالى فالمتفق عليه عند الجمهور أنه معصوم عنهما وهو الحق «٢».
وقد استنبط بعضهم «٣» من الآية الأولى التي فيها هذه الجملة رفع مسؤولية ما يقع من الإنسان من أمور محظورة نسيانا وسهوا وخطأ غير متعمد. وأيدوا ذلك بالحديث النبوي الذي رواه ابن ماجه وأبو داود وجاء فيه: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «٤». وفي سورة الأحزاب هذه الآية: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) وقد

(١) التاج ج ١ ص ١٩٧.
(٢) انظر تفسير الآيات في الطبرسي ومنار رشيد رضا.
(٣) انظر تفسير ابن كثير والمنار.
(٤) التاج ج ١ ص ٢٩.

صفحة رقم 112
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية