آيات من القرآن الكريم

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ

إياي على نعمتي، وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحدٌ إلا جزاءً على عمله الذي اكتسبه، لا على غناه وفقره، لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها الذين نهى الله نبيَّه عن طردهم. وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه. (١)
وقال آخرون: عنَى بها قومًا استفتوا النبي ﷺ في ذنوب أصابوها عظامٍ، فلم يؤيسهم الله من التوبة.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٢٩١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان، عن مجمع قال، سمعت ماهان قال: جاء قوم إلى النبيّ ﷺ قد أصابوا ذنوبًا عظامًا. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئًا. قال: فأنزل

(١) انظر ما سلف رقم: ١٣٢٥٨، وما بعده.

صفحة رقم 390

الله تعالى ذكره هذه الآية:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم" الآية. (١)
١٣٢٩٢- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن مجمع، عن ماهان: أنّ قومًا جاؤوا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا! فما إخاله ردّ عليهم شيئًا، فانصرفوا فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة". قال: فدعاهم فقرأها عليهم.
١٣٢٩٣- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجمّع التميمي قال، سمعت ماهان يقول: فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون: بل عُني بها قومٌ من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي ﷺ بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم، فكان ذلك منهم خطيئة، فغفرها الله لهم وعفا عنهم، وأمر نبيَّه ﷺ إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي ﷺ بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد، وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية، قولُ من قال: المعنيُّون بقوله:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم"، غيرُ الذين نهى الله النبي ﷺ عن طردهم. لأن قوله:"وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا"، خبر مستأنَفٌ بعد تقضِّي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله

(١) الآثار: ١٣٢٩١ - ١٣٢٩٣ -"سفيان" هو: ابن عيينة.
و"مجمع"، هو"مجمع بن صمان" أبو حمزة التميمي"، ثقة، مضى برقم: ١٢٧١٠.
و"ماهان" الحنفي، أبو سالم الأعور العابد، مضى برقم: ٣٢٢٦.
(٢) انظر ما سلف رقم: ١٣٢٦٤، ١٣٢٦٥.

صفحة رقم 391

عليه وسلم عن طردهم. ولو كانوا هم، لقيل:"وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم". وفي ابتداء الله الخبرَ عن قصة هؤلاء، وتركه وصلَ الكلام بالخبر عن الأولين، ما ينبئ عن أنهم غيرُهم.
فتأويل الكلام إذًا = إذ كان الأمر على ما وصفنا = وإذا جاءك، يا محمد، القومُ الذين يصدِّقون بتنزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرّون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم، هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها، وقل لهم:"سلام عليكم"، أَمَنَةُ الله لكم من ذنوبكم، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها (١) ="كتب ربكم على نفسه الرحمة"، يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه (٢) ="أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تابَ من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم".
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة المدنيين: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا)، فيجعلون"أنّ" منصوبةً على الترجمة بها عن"الرحمة" = (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، على ائتناف"إنه" بعد"الفاء" فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها، بمعنى: فهو له غفور رحيم = أو: فله المغفرة والرحمة. (٣)
* * *
وقرأهما بعض الكوفيين بفتح"الألف" منهما جميعًا، بمعنى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ = ثم ترجم بقوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ، عن الرحمة، (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فيعطف ب"أنه" الثانية على"أنه" الأولى، ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت. (٤)
* * *

(١) انظر تفسير"سلام" فيما سلف ١٠: ١٤٥، ومادة (سلم) في فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: ٢٧٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٣٦، ٣٣٧.
(٤) انظر ما قاله أبو جعفر في بيان هذه القراءة فيما سلف ص: ٢٧٨ - ٢٨٠.

صفحة رقم 392

وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة: بكسر"الألف" من"إنه" و"إنه" على الابتداء، وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأهما بالكسر: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ)، على ابتداء الكلام، وأن الخبر قد انتهى عند قوله:"كتب ربكم على نفسه الرحمة"، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعلٌ تعالى ذكره بمن عمل سوءًا بجهالة ثم تاب وأصلح منه.
* * *
ومعنى قوله:"إنه من عمل منكم سوءًا بجهالة"، أنه من اقترف منكم ذنبًا، فجهل باقترافه إياه (٢) = ثم تاب وأصلح ="فإنه غفورٌ"، لذنبه إذا تاب وأناب، وراجع العمل بطاعة الله، وترك العود إلى مثله، مع الندم على ما فرط منه ="رحيم"، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٢٩٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عثمان، عن مجاهد:"من عمل منكم سوءًا بجهالة"، قال: من جهل: أنه لا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته ركب الأمر.
١٣٢٩٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
١٣٢٩٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:

(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٣٦، ٣٣٧.
(٢) انظر تفسير"الجهالة" فيما سلف ٨: ٨٩ - ٩٣، وهو بيان جيد جدًا.

صفحة رقم 393
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية