
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)يقول اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أَيْ لَسْتُ أَمْلِكُهَا وَلَا أَتَصَرَّفُ فِيهَا وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أقول لكم إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، إِنَّمَا ذَاكَ مِنْ عِلْمِ الله عز وجل، ولا أَطَّلِعُ مِنْهُ إِلَّا عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أَيْ وَلَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِنَ الْبَشَرِ، يُوحَى إِلَيَّ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، شَرَّفَنِي بِذَلِكَ وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ أَيْ لَسْتُ أَخْرُجُ عَنْهُ قَيْدَ شِبْرٍ وَلَا أَدْنَى مِنْهُ.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيْ هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَهُدِيَ إِلَيْهِ، ومن ضل عنه فلم يَنْقَدْ لَهُ، أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرَّعْدِ: ١٩] وَقَوْلُهُ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أَيْ وَأَنْذِرْ بِهَذَا الْقُرْآنِ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: ٥٧] الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ [الرَّعْدِ: ٢١] الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَيْ يَوْمَئِذٍ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أَيْ لَا قَرِيبَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ فِيهِمْ، مِنْ عَذَابِهِ إِنْ أَرَادَهُ بِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ أَنْذِرْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي لَا حَاكِمَ فِيهِ، إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَيَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، عَمَلًا يُنْجِيهِمُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمْ بِهِ الْجَزِيلَ مِنْ ثَوَابِهِ.
وقوله تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَيْ لَا تُبْعِدْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كَقَوْلِهِ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الْكَهْفِ: ٢٨] وَقَوْلُهُ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَيْ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيب ومجاهد والحسن وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ:
٦٠] أَيْ أتقبل منكم. وقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم، وهم مُخْلِصُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ. صفحة رقم 231

وَقَوْلُهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ كقول نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي جَوَابِ الَّذِينَ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قَالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشُّعَرَاءِ: ١١٣]، أَيْ إِنَّمَا حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِي مِنْ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ إِنْ فَعَلْتَ هَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ هُوَ ابن محمد، حدثني أشعث عن كردوس، عن ابن مسعود: قال: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ خَبَّابٌ وصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنْ كُرْدُوسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ وَخَبَّابٌ وَغَيْرُهُمْ، مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلَاءِ الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ «٢».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ- وَكَانَ قَارِئَ الْأَزْدِ- عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قَالَ جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَوَجَدُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ، قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَّرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وفود العرب تأتيك فنستحي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: «نَعَمْ»، قَالُوا:
فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية، فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصحيفة من يده، ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ بِهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ هذه الآية مكية،
(٢) تفسير الطبري ٥/ ١٩٩.
(٣) تفسير الطبري ٥/ ١٩٩ والحديث فيه أطول مما هو هنا.

وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ إِنَّمَا أَسْلَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِدَهْرٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمُ ابْنُ مسعود، قال: كنا نستبق إلى رسول الله ﷺ وندنو منه، فقالت قريش: تدني هَؤُلَاءِ دُونَنَا، فَنَزَلَتْ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ بِهِ.
وَقَوْلُهُ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أَيِ ابْتَلَيْنَا وَاخْتَبَرْنَا وَامْتَحَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ غَالِبَ مَنِ اتَّبَعَهُ فِي أول بعثته، ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، ولم يتبعه من الأشرف إِلَّا قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ قَوْمُ نُوحٍ لِنُوحٍ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: ٢٧] الآية، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَانُوا يَسْخَرُونَ بِمَنْ آمَنَ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ، وَيُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَهْدِيَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، لَوْ كَانَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ خيرا ويدعنا، كقولهم لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وكقوله تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [الأحقاف: ١١] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مَرْيَمَ: ٧٣] وَقَالَ فِي جَوَابِهِمْ حِينَ قَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أَيْ أَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ، بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ، فَيُوَفِّقُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَلْوَانِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» «١».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ الْآيَةَ، قَالَ: جَاءَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَقَرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ فِي أَشْرَافٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ لو أن ابن
(٢) تفسير الطبري ٥/ ٢٠٠- ٢٠١.

أَخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ عَنْهُ مُوَالِيَنَا وَحُلَفَاءَنَا، فَإِنَّمَا هم عبيدنا وعتقاؤنا «١»، كَانَ أَعْظَمَ فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ، وَتَصْدِيقِنَا لَهُ، قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه بذلك، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ، وَإِلَى مَا يَصِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ إِلَى قَوْلِهِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ قَالَ: وَكَانُوا بِلَالًا وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَصُبَيْحًا مَوْلَى أُسَيْدٍ، وَمِنَ الْحُلَفَاءِ ابْنُ مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنْظَلِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَذُو الشِّمَالَيْنِ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مرثد، وأبو مرثد الغنوي حَلِيفِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الحلفاء، فنزلت فِي أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ، وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ، أقبل عمر رضي الله عنه، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فَاعْتَذَرَ مِنْ مَقَالَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ فَأَكْرِمْهُمْ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ، وَبَشِّرْهُمْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَيْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَامْتِنَانًا، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ على أن لا يَعُودَ، وَأَصْلَحَ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي».
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ «٣»، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ موسى عن عُقْبَةَ: عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «إذا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَخْرَجَ كتابا من تحت العرش، إن رحمتي
(٢) مسند أحمد ٢/ ٣١٣.
(٣) صحيح البخاري (توحيد باب ١٥ وبدء الخلق باب ١) وصحيح مسلم (توبة حديث ١٤- ١٦).