
ينصرون قولهم. وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة، ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم، وأنه لا متمسك لهم، كمن يقلدهم فيحق الحق ويبطل الباطل فَإِنْ شَهِدُوا أي: بعد حضورهم بأن الله حرم هذا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي: فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لما علمت من افترائهم على الله ومشيهم مع أهويتهم.
وفي (العناية) : فَلا تَشْهَدْ استعارة تبعية. وقيل مجاز مرسل، من ذكر اللازم وإرادة الملزوم. لأن الشهادة من لوازم التسليم. وقيل كناية. وقيل مشاكلة.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ من وضع المظهر موضع المضمر، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره، أي سوّى به الأصنام، فهو متبع للهوى لا غير، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات، موحّدا لله تعالى.
ولما بيّن تعالى فساد ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه، بأمر الله ومشيئته، بظهور عجزهم عن إبراز ما يتمسك به في ذلك، وإحضار شهداء يشهدون بذلك، بعد ما كلفوه مرارا- أمر الرسول بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنعام (٦) : آية ١٥١]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
فقال تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الأوثان وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. قال الحاكم:
والإحسان ما يخرج عن حد العقوق، ومثل هذا قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان: ١٥]. ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لترك الإحسان، ذكر في المحرمات. وكذا حكم ما بعده من الأوامر. فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده. بل هو عينه عند البعض. كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها، ومن سر ذلك هنا- أعني وضع وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً موضع (النهي عن الإساءة إليهما) - المبالغة والدلالة عن أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف في قضاء حقوقهما، بخلاف

غيرهما. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي من أجل فقر، ومن خشيته. والمراد بالقتل: وأد البنات وهن أحياء، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأن رزق العبيد على مولاهم وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ يعني: الزنى لقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: ٣٢] وإنما جيء بصيغة الجمع قصدا إلى النهي عن أنواعه أو مبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر منه ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يعني: علانيته وسره وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي قتلها لإيمانها أو أمانها إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل، يعني بالقود والرجم والارتداد ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ تلطفا ورأفة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني:
لتعقلوا عظمها عند الله تعالى فتكفّوا عن مباشرتها.
قال المهايمي: فالشرك وعقوق الوالدين وقتل الأولاد للفقر، منشؤه الجهل بما في الشرك من استهانة المنعم بالإيجاد، وبما في الإساءة إلى الأبوين من مقابلة الإحسان بالإساءة، وقربان الفواحش من متابعة الهوى، والقتل من متابعة الغضب وكلها أضداد العقل.
تنبيه:
قال بعض (الزيدية) : قوله تعالى مِنْ إِمْلاقٍ خرج على العادة. وإلا فهو محرم، خشي الفقر أم لا. وقد دلت على تحريم قتل الأولاد.
قال (الحاكم) : فيدخل في ذلك شرب الدواء لقتل الجنين. قال الإمام (يحيى) : إذا نفخ فيه الروح دون إفساد النطفة والعلقة والمضغة قبل أن ينفخ فيها الروح. وفي (الأحكام) يجب على من انقطع حيضها أن توقى من الأدوية ما يخاف على الجنين منها، إذا كانت من ذوات البعول. وفي قوله تعالى: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ تأكيد للزوم ما تقدم. انتهى.
لطيفة:
قال القاشاني: لما كان الكلام مع المشركين في تحريم الطيبات، عدّد المحرمات ليستدل بها على المحللات. فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل. وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها. فإن رذيلتها أكبر الكبائر مستلزمة لجميع الرذائل. بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية والسبعية. فقال أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إذ الشرك من خطئها في النظر، وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان. وعقبه بإحسان الوالدين. إذ معرفة حقوقهما تتلو