نَجْدٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ أَصْلَهُ " هَا " الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَ " لُمَّ " الَّتِي بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَفِعْلُهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَيُقَالُ: هَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا.
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، وَدَحَضَ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى شِرْكِهِمْ بِهِ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّعَامِ - ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَجَامِعَهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ وَالْبِرِّ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أَيْ قُلْ - أَيُّهَا الرَّسُولُ - لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْخَرْصِ وَلِلتَّخْمِينِ فِي دِينِهِمْ، وَلِلْهَوَى فِيمَا يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِسَائِرِ النَّاسِ أَيْضًا بِمَا لَكَ مِنَ الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ: تَعَالَوْا إِلَيَّ وَأَقْبِلُوا عَلَيَّ أَتْلُ وَأَقْرَأْ لَكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَحَقِّ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الرَّبَّ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي لَهُ حَقُّ التَّحْرِيمِ وَالتَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا أَنَا
مُبَلِّغٌ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، أَرْسَلَنِي لِذَلِكَ وَعَلَّمَنِي - عَلَى أُمِّيَّتِي - مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ، وَأَيَّدَنِي بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَقَدْ خَصَّ التَّحْرِيمَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي بَيَّنَ بِهَا التِّلَاوَةَ أَعَمُّ لِمُنَاسَبَةِ مَا سَبَقَ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يُحَرِّمَ غَيْرُ اللهِ ; وَلِأَنَّ بَيَانَ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا يَسْتَلْزِمُ حِلَّ مَا عَدَاهَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأُصُولِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ هَذَا الْحَلَالِ الْعَامِّ. وَأَصْلُ (تَعَالَوْا) وَ (تَعَالَ) الْأَمْرُ مِمَّنْ كَانَ فِي مَكَانٍ عَالٍ لِمَنْ دُونَهُ بِأَنْ يَتَعَالَى وَيَصْعَدَ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْأَمْرِ فِي الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا.
وَاسْتِعْمَالُ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ مِنْ ضُرُوبِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ إِلَّا إِذَا كَثُرَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَرِينَةٍ، وَلَمْ يُنْظُرْ فِيهِ إِلَى عَلَاقَةٍ كَهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَهِيَ فِيهِ خِطَابٌ مِمَّنْ هُوَ فِي أَعْلَى مَكَانٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى لِمَنْ هُمْ فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَمُتَّبِعِي الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَسْمُو إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْجَهْلِ وَالْآثَامِ.
وَقَوْلُهُ: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا حَرَّمَ الرَّبُّ وَمَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الْبِرِّ، وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضَهُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ، وَبَعْضَهُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ حَسَبَ مَا تَقْضِيهِ الْبَلَاغَةُ كَمَا سَيَأْتِي، وَ " أَنْ " تَفْسِيرِيَّةٌ، وَنَدَعُ النُّحَاةَ فِي اضْطِرَابِهِمْ وَخِلَافِهِمْ فِي تَطْبِيقِ مَا فِي حَيِّزِهَا مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ، فَنَحْنُ لَا يَعْنِينَا إِلَّا فَهْمُ الْمَعَانِي مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ كَانَ صَحِيحًا مُطَّرِدًا، وَمَا لَمْ يُوَافِقْهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَسَنُرِيكَ فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ، مَا يُغْنِيكَ عَنْ تَحْقِيقِ السَّعْدِ، وَحَلِّ إِشْكَالَاتِ أَبِي حَيَّانَ.
بَدَأَ تَعَالَى هَذِهِ الْوَصَايَا بِأَكْبَرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْظَعِهَا وَأَشَدِّهَا إِفْسَادًا لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ بِاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ لَهُ، أَوِ الشُّفَعَاءِ الْمُؤَثِّرِينَ فِي إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفِينَ لَهَا فِي الْأَعْمَالِ، وَمَا يُذَكِّرُ بِهِمْ مِنْ صُوَرٍ وَتَمَاثِيلَ وَأَصْنَامٍ أَوْ قُبُورٍ - أَوْ كَانَ بِاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ الْأَحْكَامَ، وَيَتَحَكَّمُونَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - وَكَذَا مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِمُ التَّصَرُّفُ الْخَفِيُّ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ - وَكُلُّ ذَلِكَ وَاضِحٌ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَتَفْسِيرِهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَوَّلُ مَا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ - أَوْ - أَوَّلُ مَا وَصَّاكُمْ بِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَاحِقُ الْكَلَامِ، هُوَ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فِي الْخَلْقِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، أَوْ عَظِيمَةً فِي الْقَدْرِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَإِنَّمَا عِظَمُ الْأَشْيَاءِ الْعَاقِلَةِ وَغَيْرِ الْعَاقِلَةِ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مِنْ خَلْقِ اللهِ وَمُسَخَّرَةً بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعَنْ كَوْنِ الْعَاقِلِ مِنْهَا مِنْ عَبِيدِهِ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (١٩: ٩٣) - أَوْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ صَغِيرَهُ أَوْ كَبِيرَهُ - وَمُقَابِلُهُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لَا بِأَهْوَائِكُمْ، وَلَا بِأَهْوَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَمْثَالِكُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ
الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ هُنَا ; لِأَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أَيْ وَالثَّانِي مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ، أَوْ مِمَّا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَنْ
تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا كَامِلًا لَا تَدَّخِرُونَ فِيهِ وُسْعًا، وَلَا تَأْلُونَ فِيهِ جَهْدًا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْإِسَاءَةِ وَإِنْ صَغُرَتْ، فَكَيْفَ بِالْعُقُوقِ الْمُقَابِلِ لِغَايَةِ الْإِحْسَانِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْقِرَانُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَسَيَأْتِي أَوْسَعُ تَفْصِيلٍ فِيهِ فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (أَوْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ " أُفٍّ " لَهُمَا وَقَدِ اخْتِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا الْأَمْرُ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْإِحْسَانِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُقَابِلِهِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْإِسَاءَةُ مُطْلَقًا، لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فَيَحْتَاجَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فِي مَقَامِ الْإِيجَازِ ; لِأَنَّهَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ وَالْآدَابُ الْمَرْعِيَّةُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَعَدَّى بِـ " الْبَاءِ " وَ " إِلَى " فَيُقَالُ: أَحْسِنْ بِهِ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَالْأُولَى أَبْلَغُ، فَهُوَ بِالْوَالِدَيْنِ وَذِي الْقُرْبَى أَلْيَقُ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْسَنْتَ بِهِ هُوَ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ بِرُّكَ وَحُسْنُ مُعَامَلَتِكَ، وَيَلْتَصِقُ بِهِ مُبَاشَرَةً عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْكَ وَعَدَمِ انْفِصَالٍ عَنْكَ - وَأَمَّا مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي تُسْدِي إِلَيْهِ بِرَّكَ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ إِذْ هُوَ شَيْءٌ يُسَاقُ إِلَيْهِ سَوْقًا. وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ التَّعْدِيَةُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي تَعْبِيرَيْنِ فِي مَقَامَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) (١٢: ١٠٠). (وَالثَّانِي) التَّعْبِيرُ بِالْمَصْدَرِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي أَرْبَعِ سُوَرٍ: الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ عَطَفَ فِيهِمَا ذُو الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِالتَّبَعِ - وَالْأَنْعَامِ وَالْإِسْرَاءِ. وَفِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) (٤٦: ١٥) كَمَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مِنَ السَّبْعَةِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (حُسْنًا) كَآيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ الَّتِي رُوِيَتْ كَلِمَةُ إِحْسَانًا فِيهَا مِنَ الشَّوَاذِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ فِيهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصَّيْنَا.
وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وَلَوْ غَيْرَ مُكَرَّرٍ لَكَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ عِنَايَةِ الشَّرْعِ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ، بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ وَالتَّعْدِيَةُ، فَكَيْفَ وَقَدْ قَرَنَهُ بِعِبَادَتِهِ وَجَعَلَهُ ثَانِيهَا فِي الْوَصَايَا، وَأَكَّدَهُ بِمَا أَكَّدَهُ بِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ فِي وَصِيَّةِ سُورَةِ لُقْمَانَ فَقَالَ: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (٣١: ١٤) وَوَرَدَ فِي مَعْنَى التَّنْزِيلِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ نَكْتَفِي مِنْهَا بِحَدِيثِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا " وَفِي رِوَايَةٍ لِوَقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ: " قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " فَقَدَّمَ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ. ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَعَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي بِرِّ وَالِدَيْهِ وَالْإِحْسَانِ بِهِمَا كَانَ فَاسِدَ الْفِطْرَةِ مِضْيَاعًا لِلْحُقُوقِ كُلِّهَا فَلَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ لِأَحَدٍ. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ حَتَّى جَعَلُوا مِنْ مُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَعَهُمَا كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ مَعَ السَّيِّدِ الْقَاسِي الظَّالِمِ، وَقَدْ أَطْمَعُوا بِذَلِكَ الْآبَاءَ الْجَاهِلِينَ الْمَرِيضِي الْأَخْلَاقِ حَتَّى جَرَّءُوا ذَا الدِّينِ مِنْهُمْ عَلَى أَشَدِّ مِمَّا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ ضُعَفَاءُ الدِّينِ مِنَ الْقَسْوَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَهَذَا مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ فِي الصِّغَرِ، وَإِلْجَاءٌ لَهُمْ إِلَى الْعُقُوقِ فِي الْكِبَرِ، وَإِلَى ظُلْمِ أَوْلَادِهِمْ كَمَا ظَلَمَهُمْ آبَاؤُهُمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ وَتَحَكُّمِهِمَا فِي شُئُونِهِمْ وَلَا سِيَّمَا تَزْوِيجُهُمْ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ صَفْحَةَ ٧٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَكَمْ أَفْسَدَتِ الْأُمَّهَاتُ بَنَاتِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّهِمَا وَاحْتِرَامِهِمَا احْتِرَامَ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَامَةِ، لَا احْتِرَامَ الْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، وَسَنُفَصِّلُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا.
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أَيْ وَالثَّالِثُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ - مِمَّا وَصَّاكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ - أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمُ الصِّغَارَ مِنْ فَقْرٍ وَاقِعٍ بِكُمْ لِئَلَّا تَرَوْهُمْ جِيَاعًا فِي حُجُورِكُمْ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، أَيْ وَيَرْزُقُهُمْ بِالتَّبَعِ لَكُمْ، فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (١٧: ٣١) فَقَدَّمَ رِزْقَ الْأَوْلَادِ هُنَالِكَ عَلَى رِزْقِ الْوَالِدَيْنِ - عَكْسُ مَا هُنَا - لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَقْرِ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَكُونُ الْأَوْلَادُ فِيهِ كِبَارًا كَاسِبِينَ. وَقَدْ يَصِيرُ الْوَالِدُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْكَسْبِ بِالْكِبَرِ. فَفَرَّقَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ وَالْفَقْرِ الْمُتَوَقَّعِ، فَقَدَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ضَمَانَ الْكَاسِبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كَسْبَ الْعِبَادِ سَبَبًا لِلرِّزْقِ خِلَافًا لِمَنْ يُزَهِّدُونَهُمْ فِي الْعَمَلِ بِشِبْهِ كَفَالَتِهِ تَعَالَى لِرِزْقِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ النُّكْتَةَ مِنْ
بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِ: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) (١٣٧).
(وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) أَيْ وَالرَّابِعُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَلَّا تَقْرَبُوا مَا عَظُمَ قُبْحُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْخِصَالِ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَنِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَكُلٌّ مِنْهَا سُمِّيَ فِي التَّنْزِيلِ فَاحِشَةً، فَهُوَ مِمَّا ثَبَتَتْ شِدَّةُ قُبْحِهِ شَرْعًا
وَعَقْلًا، وَلِذَلِكَ يَسْتَتِرُ بِفِعْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَقْتَرِفُونَهُمَا، وَقَلَّمَا يُجَاهِرُ بِهِمَا إِلَّا الْمُسْتَوْلِغُ مِنَ الْفُسَّاقِ الَّذِي لَا يُبَالِي ذَمًّا وَلَا عَارًا إِذَا كَانَ مَعَ مِثْلِهِ، وَهُوَ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمَا لَدَى خِيَارِ النَّاسِ وَفُضَلَائِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ الزِّنَا وَيَعُدُّونَهُ أَكْبَرَ الْعَارِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ مِنَ الْحَرَائِرِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْهُنَّ نَادِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُجَاهِرُ بِهِ الْإِمَاءُ فِي حَوَانِيتَ وَمَوَاخِيرَ تَمْتَازُ بِأَعْلَامٍ حُمْرٍ فَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا أَرَاذِلُهُمْ، وَأَمَّا أَشْرَافُهُمْ فَيَزْنُونَ سِرًّا مِمَّنْ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَخْدَانِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) (٤: ٢٥) وَالْخِدْنُ الصَّدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَيُعَبِّرُونَ بِمِصْرَ عَنْ خِدْنِ الْفَاحِشَةِ بِالرَّفِيقَةِ وَالرَّفِيقِ، وَعَنِ الْمُخَادَنَةِ بِالْمُرَافَقَةِ، وَهُوَ عِنْدَ فُسَّاقِهِمْ فَاشٍ وَلَا سِيَّمَا الْأَغْنِيَاءُ مِنْهُمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِالزِّنَا فِي السِّرِّ وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللهُ الزِّنَا بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، أَيْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَيْسَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْفَوَاحِشِ بِبَعْضِ أَفْرَادِهَا كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ (قَالَ) : الْعَلَانِيَةُ. وَمَا بَطَنَ.. قَالَ: السِّرُّ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَا ظَهَرَ مِنْهَا نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَرَأَيْتُمُ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَشَارِبَ الْخَمْرِ مَا تَقُولُونَ فِيهِمْ "؟ - قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ " هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الرَّهَاوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مَوْلَاهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَسْأَلَةُ النَّاسِ مِنَ الْفَوَاحِشِ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا فِي كِتَابِهِ تَزْوِيجَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فَإِذَا نَفَضَتْ لَهُ وَلَدَهَا طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ. نَفَضَتْ لَهُ وَلَدَهَا: وَلَدَتْ لَهُ: وَأَخْرَجَ هُوَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ. مَا ظَهَرَ مِنْهَا ظُلْمُ النَّاسِ، وَمَا بَطَنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ. أَيْ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَهَا فِي الْخَفَاءِ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ " فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُفَسِّرِي
السَّلَفِ فِي جُمْلَتِهِمْ يَحْمِلُونَ الْفَوَاحِشَ عَلَى عُمُومِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْهَا أَمْثِلَةٌ لَا تَخْصِيصٌ.
وَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) (١٢٠) مِنَ الْوُجُوهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا فَيُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (١٢٠) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا الْجُزْءِ، إِلَّا أَنَّ الْإِثْمَ أَعَمُّ مِنَ الْفَاحِشَةِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ ضَارٍّ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ فَحُشَ قُبْحُهُ أَمْ لَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُحْسِنِينَ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (٥٣: ٣٢) وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٧: ٣٣) قِيلَ: إِنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكُلِّيَّةَ وَهِيَ عَلَى التَّرَقِّي فِي قُبْحِهَا كَمَا سَيَأْتِي
فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا " لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ وَالْخَامِسُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ أَلَّا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا بِالْإِسْلَامِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَوِ الْعَهْدِ أَوِ الِاسْتِئْمَانِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا كُلُّ أَحَدٍ إِلَّا الْحَرْبِيَّ.
وَيُطْلَقُ الْعَهْدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُعَاهَدِ وَإِيذَائِهِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدَ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللهِ فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِينَ خَرِيفًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: (إِلَّا بِالْحَقِّ) هُوَ مَا يُبِيحُ الْقَتْلَ شَرْعًا كَقَتْلِ الْقَاتِلِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ.
(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَصَايَا الْخَمْسِ الَّتِي تُلِيَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّامُ فِيهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُعْدِ مَدَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصَايَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا مِنَ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ - أَوْ بَعْدَهَا عَنْ مُتَنَاوَلِ أَوْضَاعِ الْجَهْلِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْأُمِّيَّةِ. وَالْوَصِيَّةُ مَا يُعْهَدُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ تَرْكِ شَرٍّ بِمَا يُرْجَى تَأْثِيرُهُ، وَيُقَالُ: أَوْصَاهُ وَوَصَّاهُ. وَجَعَلَهَا الرَّاغِبُ عِبَارَةً عَمَّا يُطْلَبُ مِنْ عَمَلٍ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ. وَأَصْلُ مَعْنَى " وَصَى " الثُّلَاثِيِّ " وَصَلَ "، وَمُوَاصَاةُ الشَّيْءِ مُوَاصَلَتُهُ. وَهُوَ خَاصٌّ بِالنَّافِعِ كَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. يُقَالُ: وَصَى النَّبْتُ اتَّصَلَ وَكَثُرَ، وَأَرْضٌ وَاصِيَةُ النَّبَاتِ. وَقَالَ ابْنُدُرَيْدٍ فِي وَصْفِ صَيِّبِ الْمَطَرِ.
جَوْنٌ أَعَارَتْهُ الْجَنُوبُ جَانِبًا | مِنْهَا وَوَاصَتْ صَوْبَهُ يَدُ الصَّبَا |
(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أَيْ وَالسَّادِسُ مِمَّا أَتْلُوهُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَصَايَا رَبِّكُمْ فِيمَا حَرَّمَ وَأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِذَا وُلِّيتُمْ أَمْرَهُ أَوْ تَعَامَلْتُمْ بِهِ وَلَوْ بِوَسَاطَةِ وَصِيِّهِ أَوْ وَلِيِّهِ، إِلَّا بِالْفِعْلَةِ أَوِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَا يُفْعَلُ بِمَالِهِ، مِنْ حِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ صفحة رقم 166