وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا وَالْمَقْصُودُ عطف الصّلة عَلَى الصِّلَةِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الصِّلَتَيْنِ مُتَّحِدُونَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَهَذَا كَعَطْفِ الصِّفَاتِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ، أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ:
| إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا | مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ |
الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ
فِي أَوَّلِ هَذِه السُّورَة [١].
[١٥١]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٥١]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا ادَّعَوْا تَحْرِيمَهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ، إِلَى دَعْوَتِهِمْ لِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ، الَّتِي عِلْمُهَا حَقٌّ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا اخْتَلَقُوا مِنِ افْتِرَائِهِمْ وَمَوَّهُوا بِجَدَلِهِمْ. وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ ظَاهِرَةٌ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَعْلِيمٍ وَإِرْشَادٍ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِفِعْلِ الْقَوْلِ اسْتِرْعَاءً لِلْأَسْمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. صفحة رقم 155
وَعُقِّبَ بِفِعْلِ: تَعالَوْا اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ السَّفَاسِفِ الَّتِي اهتمّوا بهَا وَهَذَا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ، لِيَعْلَمُوا الْبَوْنَ بَيْنَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ قَوْمَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، مِنْ جَلَائِلِ الْأَعْمَالِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا أَزْمَانَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ.
وَافْتِتَاحُهُ بِطَلَبِ الْحُضُورِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي إِعْرَاضٍ.
وَقَدْ تَلَا عَلَيْهِم أحكاما قد كَانُوا جَارِينَ عَلَى خِلَافِهَا مِمَّا أَفْسَدَ حَالَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا وَالْأَمْرِ بِضِدِّهَا.
وَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ بِهَا إِصْلَاحُ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا افْتتح بقوله:
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
الثَّانِي: مَا بِهِ حِفْظُ نِظَامِ تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الْأَنْعَام: ١٥٢].
الثَّالِثُ: أَصْلٌ كُلِّيٌّ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْهُدَى وَهُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ
الْخُرُوجِ عَنْهُ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: ١٥٣].
وَقَدْ ذُيِّلَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالْوِصَايَةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَ (تَعَالَ) فِعْلُ أَمْرٍ، أَصْلُهُ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُرَادُ صُعُودُهُ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَوْقَ مَكَانِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَادَوْا إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ ارْتَقَى الْمُنَادِي عَلَى رَبْوَةٍ لِيُسْمَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ (تَعَالَ) عَلَى طَلَبِ الْمَجِيءِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، فَأَصْلُهُ فِعْلُ أَمْرٍ لَا مَحَالَةَ مِنَ التَّعَالِي وَهُوَ تَكَلُّفُ الِاعْتِلَاءِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى (اقْدَمْ)، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَا يُقَالُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى (قَدِمْتُ)، وَلَا تَعَالَى إِلَيَّ فُلَانٌ بِمَعْنَى جَاءَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ لَزِمَتْهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِ بِهِ فَيُقَالُ: تَعَالَوْا وَتَعَالَيْنَ. وَبِذَلِكَ رَجَّحَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ وَلَيْسَ بِاسْمِ فِعْلٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمَا لَحِقَتْهُ الْعَلَامَاتُ، وَلَكَانَ مِثْلَ: هَلُمَّ وَهَيْهَاتَ.
وأَتْلُ جَوَابُ تَعالَوْا، وَالتِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ، وَالسَّرْدُ وَحِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: ١٠٢]. وأَلَّا تُشْرِكُوا تَفْسِيرٌ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقَوْلِ.
وَذُكِرَتْ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اللُّحُومِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْفَوَاحِشِ أَوْلَى مِنَ الْعُكُوفِ عَلَى دِرَاسَةِ أَحْكَامِ الْأَطْعِمَةِ، تَعْرِيضًا بِصَرْفِ الْمُشْرِكِينَ هِمَّتَهُمْ إِلَى بَيَانِ الْأَطْعِمَةِ وَتَضْيِيعِهِمْ تَزْكِيَةَ نُفُوسِهِمْ وَكَفِّ الْمَفَاسِدِ عَنِ النَّاسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها [الْأَعْرَاف: ٣٢، ٣٣] الْآيَةَ.
وَقَدْ ذُكِرَتِ الْمُحَرَّمَاتُ: بَعْضُهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَبَعْضُهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ أَوِ الْمُؤَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَنُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي صِيغَةِ الطَّلَبِ لَهَاتِهِ الْمَعْدُودَاتِ سَنُبَيِّنُهَا.
وَأَن تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ: أَتْلُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ. فَجُمْلَةُ: أَلَّا تُشْرِكُوا فِي مَوْقِعِ عَطْفِ بَيَانٍ.
وَالِابْتِدَاءُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الِاعْتِقَادِ هُوَ
مِفْتَاحُ بَابِ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَاجِلِ، وَالْفَلَاحِ فِي الْآجِلِ.
وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عَطْفٌ على جملَة: أَلَّا تُشْرِكُوا. وإِحْساناً مَصْدَرٌ نَابَ مَنَابَ فِعْلِهِ، أَيْ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ: وَهُوَ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَقَعَ هُنَا فِي عِدَادِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْإِسَاءَةُ لِلْوَالِدَيْنِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ اعْتِنَاءً بِالْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِرَّهُمَا، وَالْبِرُّ إِحْسَانٌ، وَالْأَمْرُ بِهِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَهْلَ جلافة، فَكَانَ الْأَوْلَاد لَا يُوَقِّرُونَ آبَاءَهُمْ إِذَا أَضْعَفَهُمُ الْكِبَرُ. فَلِذَلِكَ كَثُرَتْ وِصَايَةُ الْقُرْآنِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْوَأْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٣٧] : وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ. وَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا الِابْتِدَائِيَّةُ فَجُعِلَ الْمَعْلُول كأنّه مبتدىء مِنْ عِلَّتِهِ.
وَالْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً لِقَتْلِ الْأَوْلَادِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعَ الْحُصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى، فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣١] : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ إِمَّا لِلْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِهِنَّ وَإِمَّا لِتَوَقُّعٍ ذَلِكَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ، وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ:
| إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِينَ تَنْدُبُنِي | فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ |
| أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا | فَيُكْشَفُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ |