
فَهُوَ صِدْقٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَهُوَ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَدْلٌ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الظُّلْمِيَّةِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ كَلِمَةِ اللَّهِ قَوْلُهُ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهَا تَامَّةٌ فِي كَوْنِهَا مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يُلْقُونَ الشُّبَهَاتِ فِي كَوْنِهَا دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ الْبَتَّةَ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ بَاقِيَةٌ جَلِيَّةٌ قَوِيَّةٌ لَا تَزُولُ بِسَبَبِ تُرَّهَاتِ الْكُفَّارِ وَشُبُهَاتِ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَبْقَى مَصُونَةً عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩].
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا مَصُونَةٌ عَنِ التَّنَاقُضِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢] وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَالزَّوَالَ لِأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَحَدُ الْأُصُولِ الْقَوِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَبْرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى زَيْدٍ بِالسَّعَادَةِ وَعَلَى عَمْرٍو بِالشَّقَاوَةِ ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يَلْزَمُ امْتِنَاعُ أَنْ يَنْقَلِبَ السَّعِيدُ شَقِيًّا وَأَنْ يَنْقَلِبَ الشَّقِيُّ سَعِيدًا فَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شقي في بطن امه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْكُفَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ الْعَاقِلُ إِلَى كَلِمَاتِ الْجُهَّالِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَشَوَّشَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَقَالَ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ كَانُوا ضُلَّالًا لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالضَّلَالِ وَاعْلَمْ أَنَّ حُصُولَ هَذَا الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَفِيهِ كَثْرَةٌ وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالشِّرْكِ أَمَّا كَمَا تَقُولُهُ الزَّنَادِقَةُ/ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَإِمَّا كَمَا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ وَإِمَّا كَمَا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ وَثَانِيهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّبُوَّاتِ إِمَّا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ النُّبُوَّةَ مُطْلَقًا أَوْ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ النَّشْرَ أَوْ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَادِ وَثَالِثُهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَحْكَامِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَالْوَصَائِلَ وَيُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَاطِلِ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَعَلَى الْحَقِّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ وَالْمَنْهَجِ الصِّدْقِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُنَازِعُونَكَ فِي دِينِكَ وَمَذْهَبِكَ غَيْرُ قَاطِعِينَ بِصِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ بَلْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَهُمْ خَرَّاصُونَ كَذَّابُونَ فِي ادِّعَاءِ الْقَطْعِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ رُجُوعُهُمْ فِي إِثْبَاتِ مَذَاهِبِهِمْ إِلَى تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ لَا إِلَى تَعْلِيلٍ أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالَغَ فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُوجِبًا لِذَمِّ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِ الذَّمِّ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الظَّنِّ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَذْمُومًا مُحَرَّمًا لَا يُقَالُ لَمَّا وَرَدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً كَانَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ لَا بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:
أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمْعِيًّا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مَجَالَ لَهُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ قَاطِعًا لَوْ كَانَ مُتَوَاتِرًا وَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ لِوَجْهٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ لَعَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَلَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مَفْقُودٌ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ وُجِدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ إِلَّا أَنَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَّا مَعَ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَقَامَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ فَهَذَانِ الْمَقَامَانِ إِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي صِحَّتِهِ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ/ بِهَذَا الْقِيَاسِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الظَّنِّ وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الظَّنِّ مَذْمُومَةٌ.
وَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَمَارَةٍ وَهُوَ مِثْلُ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَمَارَةٍ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُسَمَّى ظَنًّا وَبِهَذَا الطَّرِيقِ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّكَ بَعْدَ مَا عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُوَ وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَا هُوَ فَلَا تَكُنْ فِي قَيْدِهِمْ بَلْ فَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ مَنْ هُوَ؟ وَالضَّالَّ مَنْ هُوَ؟ فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ ادِّعَاءَ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ فَهُمْ كَاذِبُونَ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَمُطَّلِعٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَحَيِّرِينَ فِي سَبِيلِ الضَّلَالِ تَائِهِينَ فِي أَوْدِيَةِ الْجَهْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى يَعْلَمُ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ مَنْ يضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين فان قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال.