القرآن لأنّه حقّ لا يمكن تبديله بما يناقضه لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها.
والكلمات كما قال قتادة: هي القرآن لا مبدّل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.
ضلالات المشركين والمنع من أكل ذبائحهم
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٦ الى ١٢١]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
الإعراب:
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر دلّ عليه أَعْلَمُ وتقديره: يعلم من يضل عن سبيله. ولا يجوز أن يكون في موضع جر لأنه يستحيل المعنى، ويصير التقدير: إن ربك هو أعلم بالضالين لأن أفعل إنما تضاف إلى ما هو بعض له، وذلك كفر محال. مثل قوله
تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤] حيث: في موضع نصب بفعل مقدر، دلّ عليه: أعلم لأن حيث هاهنا اسم محض، وتقديره: يعلم حيث يجعل رسالته، ولا يجوز أن تكون حيث في موضع جر لأنها بمعنى مكان، فيكون التقدير: الله أعلم أمكنة رسالاته، وهذا أيضا كفر.
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا: أن في موضع نصب بحذف حرف الجر. وما استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها، وتقديره: وأي شيء لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.
البلاغة:
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يوجد طباق بين لفظ ظاهِرَ و «باطن».
المفردات اللغوية:
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي الكفار. سَبِيلِ اللَّهِ دينه. إِنْ ما. يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في مجادلتهم لك في أمر الميتة، إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم.
يَخْرُصُونَ يحدسون ويقدرون ويكذبون في ذلك. والخرص: الحدس والتخمين. أَعْلَمُ أي عالم. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي ذبح على اسم الله. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح. وَقَدْ فَصَّلَ بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرّمات. هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحلال إلى الحرام.
وَذَرُوا اتركوا. ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ علانيته وسره، والإثم: القبيح، وشرعا:
ما حرمه الله من كل معصية كالزنى والسرقة ونحوهما. سَيُجْزَوْنَ في الآخرة. يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن مات أو ذبح على اسم غيره، وإلا فما ذبحه المسلم ولم يسم فيه عمدا أو نسيانا فهو حلال، كما قال ابن عباس، وأخذ به الشافعي. وَإِنَّهُ أي الأكل منه لَفِسْقٌ معصية وخروج عن دائرة الدين إلى ما لا يحل. لَيُوحُونَ يوسوسون. إِلى أَوْلِيائِهِمْ أعوانهم الكفار. لِيُجادِلُوكُمْ في تحليل الميتة.
سبب النزول:
نزول الآية (١١٨) :
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس
قال: أتى ناس النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ... إلى قوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
وأخرج أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عباس في قوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ.. قال: قالوا: ما ذبح الله لا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم تأكلون؟ فأنزل الله الآية.
نزول الآية (١٢١) :
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ..: قال المشركون: يا محمد، أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: الله قتلها، قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا، فقولوا له:
ما تذبح أنت بيدك بسكّين فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب، يعني الميتة، فهو حرام، فنزلت هذه الآية: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ قال: الشياطين من فارس وأولياؤهم قريش.
وعبارة عكرمة في ذلك هي: إن المجوس من أهل فارس، لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش، وكانوا أولياءهم في الجاهلية، وكانت بينهم مكاتبة: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبح الله فهو حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أجاب الله تعالى عن شبهات الكفار، وأثبت صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الجهال لأنهم يسلكون سبيل الضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة، وهذا المنهج بالتعبير الحديث تحييد لأهل الإسلام، وتوفير لاستقلال شخصيتهم، وإبراز ذاتيتهم، بالرغم من أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا بسبب غلبة الشرك على عقائدهم.
التفسير والبيان:
لا يلتفت في شرعة الحق والقرآن إلى مسالك أهل الضلال والشرك لاتباعهم الظنون الفاسدة، وإن تطع يا محمد وكل من تبعك أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين في أمور الدين، وتخالف ما أنزل الله عليك، يضلون عن دين الله ومنهجه وسبيله، سبيل الحق والعدل والاستقامة إذ هم لا يتبعون إلا الأهواء والظنون الباطلة أو الكاذبة، ولا يقيمون وزنا للبراهين الإلهية، والأدلة العقلية، وإن هم إلا يحزرون ويحدسون أو يخمنون تخمينا عاريا عن الصحة والحقيقة كخارص ثمر النخل والعنب وغيرهما، فاعتقادهم قائم على الحدس والتخمين، لا على البرهان والدليل.
وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا في الاعتقاد فلازموا الشرك، وفي النبوات فأنكروها، وفي الأحكام التشريعية كإحلال الميتة والدم والخمر وتحريم المواشي البحائر والسوائب والوصائل. وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات ٣٧/ ٧١] وقوله: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف ١٢/ ١٠٣].
وإن ربك يعلم بالضالين عن سبيله القويم، ويعلم أيضا بالمهتدين السالكين سبيل الاستقامة، وليس كما يزعم المشركون. وهذا تحذير مؤكد لما سبق من
ضرورة رفض منهج أهل الضلال، ومسلك أهل الشرك والأهواء.
ولما كان المشركون يعتبرون الذبائح لغير الله من أصول الشرك، وكان حال أكثر الناس الضلالة والكفر، أمر الله المؤمنين بما هو من أصول الاعتقاد بالله، وهو الأكل مما ذكر اسم الله عليه وذبح باسم الله، فقال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. أي احذروا بما ذبح للأصنام والأوثان ولغير الله، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره، إن كنتم بآيات الله الدالة على الهدى والنور والعقيدة الصحيحة مؤمنين مصدقين بها، مكذبين بما يناقضها من الشرك والوثنية والضلال.
فهذه إباحة واضحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا ما ذكر عليه اسمه، ترسيخا لأصل الاعتقاد بالله، وردا على مشركي العرب وغيرهم الذين كانوا يجعلون الذبائح من أمور العبادات وأصول الدين والاعتقاد، فيتقربون بالذبائح لآلهتهم.
ومفهوم الآية أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها.
وجمهور المفسرين على أن في هذه الآية حصرا مستفادا من جهتين: الأولى- مما ذكر في الآية السالفة من عدم اتباع المضلين، والثانية- من الشرط في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فيكون المعنى: اجعلوا أكلهم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، ولا تتعدوه إلى الميتة.
ثم ندب تعالى إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأنكر أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه، من البحائر والسوائب وغيرها، فقال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وفي ذلك إشارة إلى ضرورة رفض عوائد الجاهلية واعتراضاتهم وشبهاتهم الواهية.
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ.. أي ليس هناك ما يمنعكم، أو أي شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، والحال أنه قد بين لكم المحرم عليكم في قوله: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام ٦/ ١٤٥] ومعنى الأخير: ما ذكر عليه اسم غير الله كالأصنام والأنبياء والصالحين، فبقي ما عدا ذلك على الحل.
ثم استثنى الله تعالى حال الضرورة فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرم عليكم، فإنه يباح لكم ما وجدتم حال الضرورة. ومن هذه الآية وأمثالها أخذت القاعدة الشرعية: «الضرورات تبيح المحظورات» وقاعدة: «الضرورة تقدر بقدرها».
ثم بيّن الله تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلاهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى، فقال: وَإِنَّ كَثِيراً... أي إن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، بأهوائهم وشهواتهم الباطلة، وبغير علم أصلا، إنما هو محض الهوى، والله أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم، وسيجازيهم على هذا الاعتداء والتجاوز، ولا محالة، مثل عمرو بن لحيّ وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وأحلوا أكل الميتة، وما أهل به لغير الله بذكر اسم نبي أو وثن أو صنم.
ثم أمر تعالى بترك جميع الآثام والمعاصي، فقال: وَذَرُوا ظاهِرَ... أي اتركوا جميع المعاصي والمحرمات ما أعلنتم وما أسررتم، قليله وكثيره، سواء ما تعلق بأفعال الجوارح والأعضاء كالزنى مع البغايا وأفعال القلوب كالحقد والحسد والكبر والمكيدة، والزنى مع الخليلة والصديقة والأخدان، ومن المعاصي تجاوز المضطر حدّ الضرورة المبين في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ، فَإِنَّ رَبَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ
[الأنعام ٦/ ١٤٥] وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة ٥/ ٣].
والإثم لغة: ما قبح، وشرعا: ما حرمه الله، ولم يحرم الله شيئا إلا لضرره.
والصحيح- كما قال ابن كثير- أن الآية عامة في ذلك كله، وهو ما ذكر، وهي كقوله تعالى: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف ٧/ ٣٣] ولهذا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي سواء كان ظاهرا أو خفيا، فإن الله سيجزيهم عليه، أي أنه لا بد من أنه سيجازي مرتكب المعاصي على عصيانهم إذا ماتوا ولم يتوبوا. وجاء تعريف الإثم في حديث النواس بمن سمعان فيما أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن:
«الإثم: ما حاك في النفس وتردد في الصدر» وفي رواية مسلم: «الإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس».
أما من تاب توبة صحيحة صادقة، وندم على ما فرط، فإن الله يغفر له ما بدر منه من الذنوب لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ١١٦] وكذلك فعل الحسنة عقب السيئة يمحوها، لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود ١١/ ١١٤]. وورد
في حديث أبي ذر جندب بن جنادة ومعاذ بن جبل فيما أخرجه الترمذي: «واتبع السيئة الحسنة تمحها».
ثم صرح الله تعالى بالنهي عن ضد ما فهم من الأمر السابق، وهو قوله:
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فقال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات ولم يذبح ولم يذكر اسم الله عليه، ولا ما ذبح لغير الله وهو ما كان يذبحه المشركون لأوثانهم، والذبح لغير الله والأكل من المذبوح فسق ومعصية، قال عطاء في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس.
والمتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله.
ثم ردّ الله تعالى على مجادلات المشركين في إباحة الميتات فقال: وَإِنَّ الشَّياطِينَ... أي إن شياطين الإنس والجن ليوسوسون إلى أوليائهم وأعوانهم من المشركين ليجادلوا محمدا وصحبه في أكل الميتة، كما تقدم، وإن أطعتموهم فيما يزعمون من استحلال الميتة، إنكم لمشركون مثلهم لأنكم عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره، وهذا هو الشرك كقوله تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣١]
وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله، ما عبدوهم؟
فقال: «بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم».
قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحلّ شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى، فهو مشرك لأنه أثبت مشرّعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه.
وقوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ... على تقدير القسم، وحذف اللام الموطئة للقسم، أي ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون، فيكون جواب القسم أغنى عن جواب الشرط.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:
١- إباحة ما ذبحه المسلم وذكر اسم الله عليه.
٢- الأمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم.
٣- إن الإيمان بأحكام الله والأخذ بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها.
٤- عدم إباحة ما لم يذكر اسم الله عليه كالميتات وما ذبح على النصب (الحجارة حول الكعبة) وغيرها.
٥- إباحة المحرّمات حال الضرورة الشرعية بقدر ما تقتضيه الضرورة.
٦- عدم الالتفات لآراء المشركين الزائفة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
٧- تحريم ارتكاب جميع المعاصي، سواء في السرّ أو في العلن، وسواء أفعال الجوارح كاليد والرجل، وأفعال القلوب كالحسد والحقد.
٨- الجزاء أمر محتم واقع يوم القيامة على كل معصية، والعصاة معذبون يجازيهم الله تعالى لا محالة.
٩- كل من استحل حراما أو حرم حلالا، واتبع غير أحكام الله في شرعه ودينه، فهو كافر ومشرك لأنه أشرك بالله غيره، وأثبت مشرّعا سوى الله، بل آثر حكمه على حكم الله.
أما ما يذبح عند استقبال الحاكم أو الحاج فهو في رأي الحنفية حرام أكله، لأنه مما أهلّ به لغير الله. ورأى بعض الشافعية أن المقصود من الذبح الاستبشار بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، وهذا لا يوجب التحريم، وهذا هو المعقول.
لكن لو كان الذبح بين رجلي القادم أو مرّ عليه من فوقه، فلا يؤكل لأنه ذبح أهل لغير الله به، أي ذكر اسم غير الله عليه.
١٠- استدل بعض العلماء بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما. وهذه مسألة متروك التسمية عمدا أو سهوا، وقد اختلف فيها العلماء:
أ- فقال داود الظاهري: لا تؤكل ذبيحة المسلم إن تعمد ترك التسمية أو نسي التسمية، لظاهر هذه الآية الكريمة.
ب- وقال الشافعية: متروك التسمية حلال مطلقا لقوله تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة ٥/ ٣] فأباح المذكى ولم يذكر التسمية، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة، فإن الذكاة لغة: الشق والفتح، وقد وجدا، واستدلوا أيضا
بحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية، يأتون بلحمان، لا ندري اذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، فنأكل منها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سموا وكلوا»
وروى أبو داود حديثا مرسلا عن الصلت السدوسي: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر».
وروى الدارقطني عن البراء بن عازب: «اسم الله على قلب كل مؤمن، سمّى أو لم يسمّ».
لكن التسمية سنة مستحبة عند أكل كل طعام وشراب.
والمراد من الآية: ما ذبح للأصنام لأن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، وقد قال الله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ولأن الله تعالى وصف من أكل ذبيحة الأصنام ورضي بها بالشرك، ولأن قوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوص بما أهل به لغير الله، بدليل آية أخرى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام ٦/ ١٤٥].