آيات من القرآن الكريم

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى دلائل التوحيد والنبوّة والبعث، واقتراح المشركين بعض الآيات على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ذكر هنا أن رؤية المعجزات لن تفيد من عميت بصيرته، وأنه لو أتاهم بالآيات التي اقترحوها من إِنزال الملائكة، وإِحياء الموتى حتى يكلموهم، وحشر السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول ما آمنوا بمحمد والقرآن لتأصلهم في الضلال.
اللغَة: ﴿قُبُلاً﴾ مقابلة ومواجهة ومنه قولهم أتيتُك قُبُلاً لا دُبُراً أي من قِبَل وجهك ﴿وَحَشَرْنَا﴾ الحشر: الجمع مع سوقٍ وكل جمعٍ حشرٌ ومنه ﴿فَحَشَرَ فنادى﴾ [النازعات: ٢٣]. ﴿زُخْرُفَ﴾ قال الزجاج: الزخرف الزينة وقال أبو عبيدة: كلُّ ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف ﴿ولتصغى﴾ صغى إِلى الشيء مال إِليه ومثله أصغى وفي الحديث «فأصغى إليها الإِناء» وأصله الميل ﴿يَقْتَرِفُونَ﴾ اقترف: اكتسب وأكثر ما يكون في الشر يقال: قرف الذنبَ واقترفه أي اكتسبه ﴿يَخْرُصُونَ﴾ يكذبون قال الأزهري: أصله

صفحة رقم 382

الظن فيما لا يستيقن ﴿صَغَارٌ﴾ ذلة وهوان ﴿يَشْرَحْ﴾ يوسّع والشرح: البسط والتوسعة ﴿حَرَجاً﴾ الحَرج: شدة الضيق قال ابن قتيبة: الحَرج الذي ضاق فلم يجد منفذاً.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن أبا جهل رمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفرث - وحمزة لم يؤمن من بعد - فأُخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس قال أبو جهل: أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا، وسبب آلهتنا، وخالف آباءنا قال حمزة: ومن أسفهُ منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فأنزل الله ﴿مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى﴾ هذا بيانّ لكذب المشركين في أيمانهم الفاجرة حين أقسموا ﴿لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ﴾ [الأنعام: ١٠٩] والمعنى: ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه من آيةٍ واحدة من الآيات بل نزلنا إِليهم الملائكة وأحيينا لهم الموتى فكلموهم وأخبروهم بصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما اقترحوا ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾ أي وجمعنا لهم كل شيء من الخلائق عياناً ومشاهدة ﴿مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ أي لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها وكل آية لم يؤمنوا إِلا أن يشاء الله، والغرضُ التيئيسُ من إِيمانهم ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر هؤلاء المشركين يجهلون ذلك قال الطبري: أي يجهلون أن الأمر بمشيئة الله، يحسبون أن الإِيمان إِليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا آمنوا، ومتى شاءوا كفروا، وليس الأمر كذلك، ذلك بيدي لا يؤمن منهم إِلا من هديتُه لو فوقته، ولا يكفر إِلا من خذلتُه فأضللتُه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن﴾ أي كما جعلنا هؤلاء المشركين أعداءك يعادونك ويخالفونك كذلك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء من شياطين الإِنس والجن، فاصبر على الأذى كما صبروا قال ابن الجوزي: أي كما ابتليناك بالأعداء ابتلينا من قبلك من الأنبياء ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ أي يوسوس بعضهم إِلى بعض بالضلال والشر ﴿زُخْرُفَ القول غُرُوراً﴾ أي يوسوسون بالكلام المزيّن والأباطيل المموّهة ليغروا الناس ويخدعوهم قال مقاتل: وكَلَ إِبليسُ بالإِنس شياطينَ يُضلونهم فإِذا التقى شيطان الإِنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إِني أضللتُ صاحبي بكذا وكذا فأضللْ أنتَ صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحيُ بعضهم إِلى بعض ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أي لو شاء الله ما عادى هؤلاء أنبياءهم ولكنَّ حكمة الله اقتضت هذا الابتلاء قال ابن كثير: وذلك كله بقدر الله وقضائه وإِرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدوٌ من هؤلاء ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ أي اتركهم وما يدبرونه من المكائد فإن الله كافيك وناصرُكَ عليهم ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي ولتميل إِلى هذا القول المزخرف قلوبُ الكفرة

صفحة رقم 383

الذين لا يصدّقون بالآخرة ﴿وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ أي وليرضوا بهذا الباطل وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام ﴿أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً﴾ أي قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب قاضياً بيني وبينكم؟ قال أبو حيان: قال مشركو قريش لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعلْ بيننا وبينك حكماً إِن شئتَ من أحبار اليهود أو النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت ﴿وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً﴾ أي أنزل إِليكم القرآن بأوضح بيان، مفصَّلاً فيه الحق والباطل موضّحاً الهدى من الضلال ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق﴾ أي وعلماء اليهود والنصارى يعلمون حق العلم أن القرآن حقً لتصديقه ما عندهم ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي فلا تكوننَّ من الشاكين قال أبو السعود: وهذا من باب التهييج والإِلهاب وقيل: الخطاب للرسول والمراد به الأمة ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ أي تمَّ كلام الله المنزّل فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أي لا مغيّر لحكمه ولا رادَّ لقضائه ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي إِن تطع هؤلاء الكفار وهم أكثر أهل الأرض يضلّوك عن سبيل الهدى قال الطبري: وإِنما قال ﴿أَكْثَرَ مَن فِي الأرض﴾ لأنهم كانوا حينئذٍ كفاراً ضُلاّلاً والمعنى: لا تطعهم فيما دعوك إِليه فإِنك إِن أطعتهم ضللتَ ضلالهم وكنت مثلهم لأنهم لا يدعونك إِلى الهدى وقد أخطأوه ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ أي ما يتبعون في أمر الدين إِلا الظنون والأوهام يقلّدون آباءهم ظناً منهم أنهم كانوا على الحق وما هم إِلا قومٌ يكذبون ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي إِن ربك يا محمد أعلم بالفريقين بمن ضلّ عن سبيل الرشاد وبمن اهتدى إلى إلى طريق الهدى والسداد قال في البحر: وهذه الجملة خبريةٌ تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدى كناية عن مجازاتهما ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ أي كلوا مما ذبحتم وذكرتم اسم الله عليه إِن كنتم حقاً مؤمنين قال ابن عباس: قال المشركون للمؤمنين إِنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله - يريدون الميتة - أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فنزلت الآية ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله﴾ أي وما المانع لكم من أكل ما ذبحتموه بأيديكم بعد أن ذكرتم اسم ربكم عليه عند ذبحه؟ ﴿عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ﴾ أي وقد بيَّن لكم ربكم الحلال والحرام ووضّح لكم ما يحرم عليكم من الميتة والدم الخ في آية المحرمات إلا في حالة الاضطرار فقد أحلّ لكم ما حرّم أيضاً فما لكم تستمعون إِلى الشبهات التي يثيرها أعداؤكم الكفار؟ ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي وإِن كثيراً من الكفار المجادلين ليُضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام بغير شرعٍ من الله بل بمجرد الأهواء والشهوات ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين﴾ أي المجاوزين الحدَّ في الاعتداء فيحلّلون ويحرمون بدون دليل شرعي من كتاب أو سنّة، وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لمن اعتدى حدود الله ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ أي اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها وسرَّها وعلانيتها قال مجاهد: هي المعصية في السر والعلانية وقال

صفحة رقم 384

السدي: ظاهره الزنى مع البغايا وباطنه الزنى مع الصدائق والأخدان ﴿إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾ أي يكسبون الإِثم والمعاصي ويأتون ما حرّم الله سيلقون في الآخرة جزاء ما كانوا يكتسبون ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ أي لا تأكلوا أيها المؤمنون ممَّا ذُبح لغير الله أو ذكر اسم غير الله عليه كالذي يذبح للأوثان ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي وإِن الأكل منه لمعصيةً وخروجٌ عن طاعة الله ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ أي وإِن الشياطين ليوسوسون إِلى المشركين أوليائهم في الضلال لمجادلة المؤمنين بالباطل في قولهم: أتأكلون ممّا قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله؟ يعني الميتة ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أي وإِن أطعتم هؤلاء المشركين في استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم إِنكم إِذاً مثلهم قال الزمخشري: لأن من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به، ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان للتشديد العظيم ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ قال أبو حيان: لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثَّل تعالى بأن شبّه المؤمن بالحيّ الذي له نور يتصرف به كيفما سلك، والكافر بالمتخبط في الظلمات المستقر فيها ليظهر الفرق بين الفريقين والمعنى: أو من كان بمنزلة الميت أعمى البصيرة كافراً ضالاً، فأحيا الله قلبه بالإِيمان، وأنقذه من الضلالة بالقرآن ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس﴾ أي وجعلنا مع تلك الهداية النور العظيم الوضاء الذي يتأمل به الأشياء فيميز به بين الحق والباطل ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ أي كمن هو يتخبط في ظلمات الكفر والضلالة لا يعرف المَنْفذ ولا المخْلص؟ قال البيضاوي: وهو مَثلٌ لمن بقي في الضلالة لا يفارقها بحال ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي وكما بقي هذا في الظلمات يتخبّط فيها كذلك حسناً للكافرين وزينا لهم ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي ﴿وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا في كل بلدةٍ مجرميها من الأكابر والعظماء ليفسدوا فيها قال ابن الجوزي: وإِنما جعل الأكابر فُسَّاق كل قرية لأنهم أقربُ إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي وما يدرون أن وبال هذا المكر يحيق بهم ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ﴾ أي وإِذا جاءت هؤلاء المشركين حجةٌ قاطعة وبرهانٌ ساطع على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا لن نصدّق برسالته حتى نُعطى من المعجزات مثل ما أُعطي رسُل الله، قال في البحر: وإِنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ولو كانوا موقنين غير معاندين لاتبعوا رسل الله تعالى، وروي أن أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف حتى إِذا صرنا كفَرَسيْ رهان قالوا: منّا نبيٌ يُوحى إِليه! والله لا نرضي به ولا نتبعه أبداص إِلا أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه فنزلت الآية ﴿الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أي الله أعلم من هو أهلٌ للرسالة فيضعها فيه وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ

صفحة رقم 385

بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} أي سيصيب هؤلاء المجرمين الذل والهوان، والعذاب الشديد يوم القيامة بسبب استكبارهم ومكرهم المستمر قال في البحر: وقدَّم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع الرسول وتكبّروا طلباً للعزّ والكرامة فقوبلوا بالهوان والذل أولاً ثم بالعقاب الشديد ثانياً ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ أي من شاء الله هدايته قذف في قلبه نوراً فينفسح له وينشرح وذاك علامة الهداية للإِسلام قال ابن عباس: معناه يوسّع قلبه للتوحيد والإِيمان، وحين سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن هذه الآية قال: إِذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ أي ومن يرد شقاوته وإِضلاله ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ أي يجعل صدره ضيّقاً شديد الضيق لا يتسع لشئ من الهدى، ولا يخلص إِليه شئ من الإِيمان قال عطاء: ليس للخير فيه منفذ ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء﴾ أي كأنما يحاول الصعود إِلى السماء ويزاول أمراً غير ممكن قال ابن جرير: وهذا مثلٌ ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإِيمان إِليه، مثلُ امتناعه من الصعود إِلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وسعه ﴿كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي مثل جعل صدر الكافر شديد الضيق كذلك يلقي الله العذاب والخذلان على الذين لا يؤمنون بآياته قال مجاهد: الرجسُ كل ما لا خير فيه وقال الزجاج: الرجس اللعنةُ في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً﴾ أي وهذا الدين الذي أنت عليه يا محمد هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه فاستمسك ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي بينا ووضحنا الآيات والبراهين لقوم يتدبرون بعقولهم ﴿لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهؤلاء الذين يؤمنون ويعتبرون وينتفعون بالآيات دار السلام أي السلامة من المكاره وهي الجنة في نُزل الله وضيافته ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي هو تعالى حافظهم وناصرهم ومؤيدهم جزاءً لأعمالهم الصالحة قال ابن كثير: وإِنما وصف تعالى الجنة هنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إِلى دار السلام.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ﴾ التعرض لوصف الربوبية والإِضافة إِلى ضميره عليه السلام ﴿رَبُّكَ﴾ لتشريف مقامه وللمبالغة في اللطف في التسلية.
٢ - ﴿الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ [آل عمران: ٦٠] الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على طريق التهييج والإِلهاب.
٣ - ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي تمَّ كلامه ووحيه أطلق الجزء وأراد الكل فهو مجاز مرسل.
٤ - ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ﴾ بين لفظ ﴿ظاهر﴾ و ﴿باطن﴾ طباقٌ.
٥ - ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ الموت والحياة، والنور والظلمة كلها من باب الاستعارة فقد

صفحة رقم 386

استعار الموت للكفر والحياة للإِيمان وكذلك النور والظلمات للهدى والضلال.
٦ - ﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ الشرح كناية عن قبول النفس للحق والهدى الذي جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين لفظ الشرح والضيق طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
فائِدَة: الحكم أبلغ من الحاكم وأدلُّ على الرسوخ لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرّر منه الحكم بخلاف الحاكم.
تنبيه: قال الرازي: دلّت هذه الآية ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام، لأن القول بالتقليد قولٌ بمحض الهوى والشهوة، والآية دلّت على أن ذلك حرام.

صفحة رقم 387
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية