آيات من القرآن الكريم

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

ودسّ وعداء شديد صريح للمسلمين. ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها. والله أعلم «١».
وجملة: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عزّ وجلّ اختصّ ذريتهما بذلك. وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن لأنه لم يسبق مثله. ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول ذُرِّيَّتِهِمَا فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة:
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. في الآية [١٦٤] من سورة النساء وفي الآية [٧٨] من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة.
ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الردّ على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك. والله أعلم.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
. (١) كفلين: بمعنى ضعفين على قول الجمهور.

(١) اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا.

صفحة رقم 332

(٢) لئلا يعلم: الجمهور على أن (لا) زائدة وأن تقدير الجملة لأن يعلم أو لكي يعلم. وروح الآية يؤيد ذلك. وقد قرئت (ليعلم) وهذه في نفس المعنى المقصود.
(٣) أن لا يقدرون: الجمهور على أن (أن) هي مخففة من أنّ وتقدير الجملة (أنهم لا يقدرون) أي لا يقدرون على منع فضل الله عن أحد. وعدم حذف نون المضارع دليل على صحة ذلك.
عبارة الآيتين واضحة. وقد تضمنت الأولى التفاتا إلى المؤمنين منطويا على التعقيب والحثّ والبشرى: فعليهم- وقد عرفوا سنّة الله تعالى وحكمته- أن يعتبروا ويتقوا الله ويلتزموا حدوده ويؤمنوا برسله إيمانا مخلصا ويتبعوا إرشاده. فإن فعلوا ضاعف الله لهم الأجر وجعل لهم نورا يمشون في ضوئه فلا يضلون عن سبيل الحق القويم وغفر لهم ذنوبهم وهو الغفور الرحيم وتضمنت الثانية شيئا من الالتفات إلى أهل الكتاب منطويا في الوقت نفسه على بشرى للمسلمين: ففي ما يوصي الله تعالى المؤمنين ويأمرهم به من تقوى الله والإيمان برسله ويعدهم به من مضاعفة الأجر لهم وتيسير النور الذي يسيرون على هداه وغفران ذنوبهم. ويكون في ذلك تنبيه لأهل الكتاب ليعلموا أنهم غير قادرين على منع فضل الله عن أحد ولا محتكريه. فالله تعالى هو صاحب الفضل وهو يتصرف فيه كما تقتضي حكمته وعدله فيؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا يتضمن قرينة بل دلالة على أن جملة وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ لا تعني الإيمان البدني بالرسول لأنهم مؤمنون به حينما وصفوا ب الَّذِينَ آمَنُوا وإنما تعني الحثّ على قوة اليقين والوثوق والطاعة. وهي من هذه الناحية من باب الآيتين [٧] و [٨] من هذه السورة على ما شرحناه في سياقهما.

صفحة رقم 333

تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إلخ والآية التالية لها. وما فيهما من تلقين وما ورد في صددهما من أحاديث
روى المفسرون في سياق هذه الآيات أن وفدا من نصارى الحبشة وفد على النبي ﷺ فأسلموا. ورأوا ما عليه المسلمون من خصاصة فاستأذنوا النبي بأن يحضروا شيئا من أموالهم ويعطوها للمحتاجين فأذن لهم فذهبوا وأحضروها ووزعوها فأنزل الله آيات سورة القصص [٥٢- ٥٥] هذه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥). فصاروا يفخرون على المسلمين من العرب ويقولون لهم أجرنا مضاعف، لأننا آمنا بكتابكم وكتابنا من قبله فأنزل الله الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فحسد المسلمون الحبشة المسلمين العرب فأنزل الله الآية الثانية.
والرواية لم ترد في الصحاح. ولقد روي أن آيات القصص المذكورة مدنيّة.
ولعل ذلك متصل بهذه الرواية. ولقد توقفنا في سياق تفسير آيات القصص في رواية مدنيتها ونبهنا على ما تبادر لنا من دلائل على مكّيتها بما يغني عن التكرار.
ونزيد هنا فنقول إن فحوى الآيتين لا يمكن أن ينطبق على ما جاء في الرواية من حيث إن الرواية تقتضي أن تكون الآية الأولى ردا على فخر من بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بسبب آيات مدنيّة وضعت في سورة مكيّة. ثم وضع الردّ في سورة مدنيّة. وأن يكون أهل الكتاب الذين آمنوا قد حسدوا المسلمين العرب فأنزل الله آية فيها ردّ عليهم مع أن فحوى الآية لا يمكن أن تفيد أنها عنت جماعة مؤمنين بالرسالة المحمدية...

صفحة رقم 334

والذي يتبادر لنا أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة التي تحكي حالة أهل الكتاب وبخاصة النصارى في زمن النبي وقبله لتهتف بالمسلمين أن يتقوا الله ويتيقنوا ويثقوا بكل ما جاء به رسوله ودعا إليه فيستحقوا بذلك ضعفين من رحمة الله وغفرانه ونوره. ويكون في ذلك ردّ على أهل الكتاب غير المؤمنين الذين قد يحتجون بأنهم على هدى الله وأنهم الحائزون وحدهم لرحمته وفضله.
والراجح أنه كان يقع حوار بين بعض المسلمين وأهل الكتاب حول من هو الأهدى والأفضل والمستحق لرحمة الله فكان في الآية الثانية ترديد لذلك ووضع للأمر في نصابه الحق. وهناك آيات في سور سبق تفسيرها تذكر ما كان من تبجح أهل الكتاب بأنهم أبناء الله وأحباؤه وبأنهم الأهدى الذين لهم الجنة وحدهم إلخ كما جاء مثلا في آيات البقرة [١١١ و ١٢٠ و ١٢٥] والمائدة [١٨].
ولقد روى الطبري عن ابن زيد في تأويل جملة: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ إنها بمعنى يؤتكم رحمته مرتين مرة في الدنيا ومرة في الآخرة. وعن الضحاك إنها بمعنى يؤتكم أجرا على إيمانكم بالكتاب الأول وأجرا على إيمانكم بالقرآن. ومع أن القول الأول أوجه من الثاني فإنه يتبادر لنا أيضا أن الجملة على سبيل البشرى والتطمين بمضاعفة الله الأجر للمؤمنين المتقين. وهو ما تكرر بأساليب متنوعة مرّت أمثلة كثيرة منها في السور التي سبق تفسيرها والله أعلم.
وعلى كل حال ففي الآيتين تلقين مستمر المدى يستمد منه المسلم حافزا على تقوى الله لنيل أجره المضاعف والاهتداء بنوره الهادي. وإيذانا بأنه لا حرج على فضل الله ولا يحقّ لأحد أن يحتكره فالله هو صاحب الفضل فيؤتيه من يشاء ممن استحقه بعمله الصالح وتقواه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية فيها تمثيل مبشر للمسلمين وهي ليست من الصحاح ومع ذلك فلم نر بأسا من إيرادها لما فيها من تبشير وتطمين للمسلمين. منها حديث أخرجه الطبري عن عبد الله بن عمر قال:
«سمعت رسول الله ﷺ يقول إنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة

صفحة رقم 335

العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر عمالا فقال من يعمل من بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين فعملتم». وحديث أخرجه الطبري بطرقه عن عبد الله بن دينار قال:
«سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله ﷺ مثل هذه الأمة أو قال مثل أمتي ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل قال من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط قال اليهود نحن فعملوا. ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر على قيراط قالت النصارى نحن فعملوا. وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل على قيراطين».
هذا، وفي دعوة المسلمين إلى تقوى الله عزّ وجلّ والإيمان برسوله في ختام السورة تناظر مع الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله في أول السورة. وقد يكون في هذا مشهد من مشاهد النظم والتأليف القرآني التي تكررت في أوائل وأواخر سور عديدة على ما نبهنا عليه في مناسباته، والله أعلم.

صفحة رقم 336

سورة التوبة
في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلّا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحثّ على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين. والثناء على المؤمنين المخلصين.
وتنطوي فصولها على:
(١) التبرّؤ من المشركين الناقضين للعهد والحثّ على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم.
(٢) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام. وليس لهم في ذلك حقّ وميزة.
(٣) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك.
(٤) وحثّ على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.
(٥) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها.

صفحة رقم 337

(٦) وحثّ واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلّفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.
(٧) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.
(٨) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.
(٩) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان.
ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيىء. وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله. ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.
(١٠) حظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.
(١١) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.
(١٢) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن.
(١٣) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد.
(١٤) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي ﷺ وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم.
وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها. وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة «١». في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما. ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة. حيث يسوغ القول إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة. وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله ﷺ بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيّتان. وهذه الرواية مروية

(١) انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والمنار. [.....]

صفحة رقم 338

في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي «١» عن ابن الفرس. وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول إن معنى الآيتين لا يظهر إلّا في دعوة النبي ﷺ إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا. وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار.
هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا. وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما. وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات.
والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان الذي هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور. وقد روى الترمذي «٢» حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين «٣» فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال. فقال عثمان كان رسول الله ﷺ يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها «٤» فظننت أنها منها فقبض رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أنها منها فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال». وهناك روايات أخرى في صدد ذلك. منها رواية عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها أن هذه السورة نزلت بالسيف وأن البسملة أمان. ورواية عن أبيّ بن كعب أن النبي ﷺ كان

(١) الإتقان ص ١٦.
(٢) التاج ج ٤ ص ١١٢، ١١٣.
(٣) يسمى ما قلّت آياته عن المائة من السور ولم تكن من القصار بالمثاني، وما زادت آياته على المائة بالمئين.
(٤) أي فيها فصول مثلها من جهاد وعهد.

صفحة رقم 339

يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها. ورواية- جاءت بصيغة قيل- تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ولم يتغلب رأي على رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان. ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول إنهما سورة واحدة.
وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب «١».
وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال. وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة. وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقلّ آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا. ولم يؤثر عن النبي ﷺ أمر بوضع البسملة بينهما. وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا.
وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات، الأولى أن النبي ﷺ كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها.
وكان وضع الآيات في السور بأمره. والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره. ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنيّة. وأن السور المكيّة كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل. وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنيّة أضيف إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات [١٦٣- ١٧٠] من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة. والله أعلم.

(١) انظر كتب تفسير البغوي والزمخشري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والنيسابوري ومن الغريب أن الطبري لم يتعرض لهذا البحث ورواياته!

صفحة رقم 340
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية