عنه أن رسول الله ﷺ قال فيما أخرجه في الفردوس عن ابن عمر: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح».
وفي الحديد أيضا منافع كثيرة للناس في شؤون معايشهم وتحقيق حاجياتهم في المنازل والمصانع والمعامل والمباني والأسلحة وآلات الزراعة ووسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية.
وقد أنزل الله الحديد وخلقه للناس ليعلم علم مشاهدة حسية من ينصر شرعه ودينه وينصر رسله، وهم غائبون عنه لم يروه، إن الله قوي على الأمور في أخذه، منيع غالب لا يمانع، والنصر الصحيح: هو ما كان عن إخلاص بالقلب، وهو المراد بِالْغَيْبِ.
- ٢- وحدة الشرائع في أصولها وصلة الإسلام بما قبله
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
الإعراب:
... وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها.. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ رَهْبانِيَّةً منصوبة بفعل مقدر، أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها. وابْتِغاءَ مستثنى ب إلا من غير الجنس، أو بدل من الضمير المنصوب في كَتَبْناها.
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. لِئَلَّا بكسر اللام على القراءة المشهورة، وقرئ بفتحها وهي لغة لبعض العرب، ولا: إما زائدة، وهو الظاهر، أو غير زائدة بمعنى: لئلا يعلم أهل الكتاب أن يفعل بكم هذه الأشياء من إيتاء الرحمة والمغفرة وجعل النور، ليبين جهل أهل الكتاب، وأن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على إزالته وتغييره. وبعبارة أخرى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله، ولا ينالونه.
المفردات اللغوية:
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ جعلنا النبوة في ذرية نوح وإبراهيم، والكتاب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والفرقان. فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ من الذرية أو من المرسل إليهم.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم.
قَفَّيْنا اتبعنا أو جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان، يقال: قفّى أثره، وقفّى على أثره: أتبعه. الْإِنْجِيلَ الكتاب الذي أنزل الله على عيسى عليه السلام. رَأْفَةً هي دفع الشر باللطف واللين. وَرَحْمَةً جلب الخير والمودة بالحسنى. وَرَهْبانِيَّةً أو هبنة: هي الانقطاع للعبادة عن الناس، واتخاذ الصوامع في الجبال وغيرها، والامتناع عن لذيذ الطعام والشراب والزواج. ابْتَدَعُوها استحدثوها وليست في دينهم. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم، أو ما أمرناهم بها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أي لكنهم ابتدعوها بقصد مرضاة الله. فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي لم يرعها الجميع، فتركها كثير منهم، وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين ملكهم. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا آتينا الذين آمنوا بعيسى الإيمان الصحيح والمحافظة على حقوقه. مِنْهُمْ من أتباعه. فاسِقُونَ خارجون عن حال الاتباع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرسل المتقدمة. اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم. كِفْلَيْنِ نصيبين، الكفل: الحظ والنصيب. مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بالنبيين.
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ أي نورا تمشون به على الصراط، يكون أساس النجاة، وهو المذكور في قوله تعالى المتقدم في السورة: يَسْعى نُورُهُمْ. وَيَغْفِرْ لَكُمْ الكفر والمعاصي.
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي ليعلم، ولا: زائدة، ويؤيده أنه قرئ: (ليعلم، ولكي يعلم، ولأن يعلم). وأهل الكتاب هنا: اليهود وأصحاب التوراة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. أَلَّا يَقْدِرُونَ أن: مخففة من الثقيلة، أي أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله، ولا يتمكنون من نيله، ولا يستطيعون التصرف في أعظم فضله وهو النبوة، فيخصونها بمن أرادوا. يُؤْتِيهِ يعطيه.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٨) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا الآية [القصص ٢٨/ ٥٤] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.
نزول الآية (٢٩) :
لِئَلَّا يَعْلَمَ..: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت:
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبي، فيقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا، فأنزل الله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. الآية، يعني بالفضل النبوة.
المناسبة:
بعد بيان أن الله أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأمر الخلق بنصرتهم، أبان تعالى وحدة النبوة سلالة ومعنى في ذرية نوح وإبراهيم، ووحدة النبوة تقتضي وحدة التشريع، ووحدة الكتاب، أي الكتب السماوية الأربعة، فما جاء أحد بعد نوح وإبراهيم بالنبوة إلا من سلالتهما وعلى منهجهما، وتلك نعمة شرف الله بها نوحا وإبراهيم عليهما السلام.
ثم أوضح الله تعالى أن الأجر والثواب واحد لكل من آمن بالرسل المتقدمة، وأكمل إيمانه بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن النبوة فضل من الله ورحمة، لا تختص بقوم دون قوم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يصح قول اليهود: إن الرسالة فينا دون غيرنا، ونحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن شعب الله المختار.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي تالله لقد بعثنا نوحا أب البشر الثاني إلى قومه وإبراهيم خليل الرحمن أبا الأنبياء وأبا العرب إلى قوم آخرين، وجعلنا الرسالة والنبوة في ذريتهما، فكل الأنبياء من سلالتهما، فلم يرسل الله بعدهما رسولا ولا نبيا إلا من ذريتهما، وكذلك جعلنا الكتب المنزلة فيهما، فلم ينزل الله كتابا ولا أوحى إلى بشر وحيا إلا من سلالتهما.
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي كان مصير الذرية الانقسام إلى فريقين، فمنهم جماعة مهتدون إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وطاعته، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا.
وهذا دليل على أن الانحراف والخروج عن جادة الحق كان بعد التمكن من معرفته والوصول إليه وقيام الحجة عليهم.
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي ثم بعثنا بعدهم رسلا تترى، رسولا بعد رسول، وبعضهم بعد بعض، مع مرور العصور، وذلك إلى أن انتهى الأمر إلى أيام عيسى عليه السلام، فخصه بالذكر لشهرته في عصر التنزيل، فقال:
وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي وأتبعنا سلسلة الرسل بعيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل: وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، متضمنا أصول شرعه، ومكملا لما في التوراة، وموضحا حقيقة الشريعة وحكمتها، ومخففا بعض أحكامها القاسية التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل لظلمهم وفحشهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء ٤/ ١٦٠].
ثم ذكر الله تعالى بعض صفات أتباع عيسى، فقال:
وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي وجعلنا في قلوب أتباعه وهم الحواريون وأنصارهم رقة في الطبع ورحمة بالخلق، خلافا لليهود القساة، وابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم، ولم يشرعها الله لهم، ولم يأمرهم بها، بل ساروا عليها غلوا في العبادة، وحمّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع عن المطعم والمشرب والزواج، وانعزلوا عن الناس وانقطعوا إلى العبادة في الكهوف والصوامع، ولبسوا الملابس الخشنة، تقربا إلى الله تعالى.
ولكنهم ابتدعوا الرهبانية بقصد مرضاة الله، غير أنهم لم يراعوها حق الرعاية، ولم يحافظوا على أصولها، بل ضيّعوها، واستعملها كثير منهم في الفساد.
وهذا- كما قال ابن كثير- ذمّ لهم من وجهين:
أحدهما- الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله تعالى.
والثاني- أنهم لم يقوموا بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.
روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن مسعود، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منهم إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت، فصبرت، ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكر الله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ «١».
فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي فأعطينا المؤمنين إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته، يأكلون أموال الناس بالباطل، وسلوكهم منحرف.
روى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ كان يقول: «لا تشدّدوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم، فشدّد عليه، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ».
وروى الإمام أحمد عن إياس بن مالك: أن النبي ﷺ قال: «لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل».
ثم ذكر الله تعالى ثواب المؤمنين بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يا أيها الذين صدقوا بوجود الله تعالى ووحدانيته وصدقوا رسوله ﷺ من مؤمني أهل الكتاب: اليهود والنصارى، خافوا الله تعالى، بترك ما نهاكم عنه، وأداء ما أمركم به، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، يعطكم الله نصيبين أو ضعفين من رحمته، بسبب إيمانكم برسوله صلى الله عليه وسلم، بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، ويزيدكم على ذلك أنه يجعل لكم نورا تمشون به على الصراط، تهتدون به في الآخرة، وهدى تبصرون به العمى والجهالة في الدنيا، ويغفر لكم ما سلف من ذنوبكم، والله بليغ المغفرة والرحمة.
فهذا وعد للمؤمنين برسول الله ﷺ بعد الإيمان بجميع الأنبياء قبله يتضمن ثلاثة أمور: مضاعفة الثواب، وجعل النور لهم على الصراط للنجاة، ومغفرة الذنوب والسيئات.
أخرج الشيخان صاحبا الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، فله أجران، ورجل أدّب أمته، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران».
ثم رد الله على اليهود الذين زعموا اختصاص النبوة فيهم، فقال: لِئَلَّا يَعْلَمَ»
أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
أي اتقوا الله وآمنوا يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة، ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب على رد ما أعطاه الله، ولا إعطاء ما منع الله، فإنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقدرون أن يمنعوا ذلك الفضل الذي تفضل به على المستحقين له، كالنبوة والرسالة وغيرهما، وأن الفضل ومنه النبوة والعلم والتقوى بيد الله، يعطيه من يشاء، كما آتى محمدا ﷺ وأصحابه وأمته منه نصيبا أوفر من دين الإسلام، والله واسع الفضل، كثير العطاء والخير لمن يشاء من عباده.
والخلاصة: أن إيمان أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل وبموسى وعيسى لا يكفي، ولا ينفع شيئا، ما لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تفصيل ما أجمل في الآيات السابقة من إرسال الرسل بالكتب، وقد دلت على ما يأتي:
١- أخبر الله أنه أرسل نوحا وإبراهيم، وجعل النبوة في نسلهما، فجعل بعض ذريتهما الأنبياء، وأوحى إليهم الكتب المنزّلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
٢- بعض تلك الذرية آمن وائتم بإبراهيم ونوح واهتدى، وكثير منهم كافرون خارجون عن طاعة الله تعالى.
٣- أتبع الله سبحانه على آثار تلك الذرية رسلا كثيرين كموسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم، وعيسى ابن مريم، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه، وآتاه الله الإنجيل، وهو الكتاب المنزل عليه.
٤- جعل الله تعالى في قلوب الذين اتبعوا عيسى على دينه، وهم الحواريون وأتباعهم، رأفة ورحمة، أي مودّة، فكان يوادّ بعضهم بعضا، والرأفة: اللين، والرحمة: الشفقة.
وهذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس، وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم، وحرّفوا الكلمة عن مواضعه.
قال مقاتل: المراد من الرأفة والرحمة: أنهم كانوا متوادّين بعضهم مع بعض، كما وصف الله أصحاب محمد ﷺ بذلك في قوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
واستدل أهل السنة بقوله: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً... على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وكسب للعبد، لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.
٥- لقد ابتدع أتباع عيسى الرهبانية (الفعلة المنسوبة إلى الرهبان) من قبل أنفسهم، ولم يفرضها الله عليهم ولا أمرهم بها، لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فما قاموا بها حق القيام، وتسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة مع الناس، وأكل أموالهم، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٤].
والمراد من الرهبانية كما ذكر الرازي وغيره: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، ومتحملين كلفا زائدة على العبادات
التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن، والاعتزال عن النساء، والتعبد في المغاور والكهوف.
عن ابن عباس: أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام غيّر الملوك التوراة والإنجيل، فساح قوم في الأرض، ولبسوا الصوف.
٦- آتى الله الذين آمنوا من أتباع عيسى والذين ابتدعوا الرهبانية أولا ورعوها أجرهم المستحق لهم، وكان كثير من المتأخرين بعدئذ فاسقين خارجين عن حدود الله وطاعته، كافرين بما جاء به عيسى وموسى عليهما السلام، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصوامع والمغاور، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
٧- هذه الآية: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده، فيدخل في الآية.
وفيها أيضا دليل على أن العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت مندوب إليه عند فساد الزمان وتغيّر الأصدقاء والإخوان.
٨- أمر الله تعالى صراحة مؤمني أهل الكتاب (الذين آمنوا بموسى وعيسى) أن يتقوا الله حق تقاته باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وأن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فعلوا كان لهم مثلان من الأجر على إيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص ٢٨/ ٥٤].
ويجعل الله لهم أيضا نورا، أي بيانا وهدى إلى الحق في الدنيا، وضياء يمشون به على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم. وهذا وعد من الله منجز في أمور ثلاثة كما تقدم: مضاعفة الثواب، وجعل النور، وغفران الاثام.
٩- رد الله تعالى بقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ.. بما يأتي على بني إسرائيل الذين كانوا يقولون: الوحي والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلا لنا، والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جمع العالمين.
إن النبوة ليست مختصة بهم، وغير حاصلة إلا في قومهم، فهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر النبوة والرسالة في قوم مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده، ولا اعتراض عليه في ذلك.
وهذا المفهوم على القول المشهور عند أكثر المفسرين بأن (لا) في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ صلة زائدة مؤكدة، أي ليعلم أهل الكتاب أنهم عاجزون عن منح أحد شيئا من فضل الله تعالى.
وعلى قول أبي مسلم الأصفهاني وجمع آخرين: أن هذه الكلمة ليست بزائدة، يكون المفهوم والمستفاد من الآية: لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه «١»، وليعلموا أن الفضل بيد الله، ويكون تقدير الآية:
إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله، فيكون في هذا القول تقدير محذوف وهو: وليعتقدوا أن الفضل بيد الله. وأما القول الأول فاحتاج إلى حذف شيء موجود، ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف «٢».
(٢) تفسير الرازي، ٢٩/ ٢٤٧- ٢٤٨
١٠- دل قوله: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ.. على أن الفضل الإلهي في ملك الله وتصرفه، يؤتيه من يشاء، لأنه قادر مختار يفعل ما يريد، ودل قوله:
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على أنه لا بد وأن يكون إحسانه عظيما، والمراد تعظيم حال محمد ﷺ في نبوته وشرعه وكتابه، وأمر أهل الكتاب بالمبادرة إلى الإيمان برسالته خاتمة الشرائع الإلهية.
[الجزء الثامن والعشرون]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلةمدنيّة، وهي اثنتان وعشرون آية.
مدنيتها:
هذه السورة مدنية على الصحيح، وروي عن الكلبي أنه قال: نزلت كلها بالمدينة إلا قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ.. فإنها نزلت بمكة. وعن عطاء: العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي.
تسميتها:
سميت سورة المجادلة، لافتتاحها بقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. وهذه المرأة هي خولة امرأة أوس بن الصامت.
مناسبة السورة لما قبلها:
تتضح صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي:
١- ذكر في مطلع سورة الحديد صفات الله الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، والعالم بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو مع خلقه أينما كانوا، وذكر في مطلع هذه السورة ما يدل على ذلك وهو سماع قول المجادلة التي تشتكي إلى الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها حين نزلت: «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني في ناحية البيت لا أعرف ما تقول» «١» أي المجادلة.
٢- ختمت السورة السابقة ببيان فضل الله، وافتتحت هذه السورة بما يشير إلى بعض الفضل.
٣- ذكر في المجادلة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.. الآية (٧) وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى في السورة السابقة:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤).
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كغالب السور المدنية بيان الأحكام التشريعية، وقد تضمنت حكم الظهار وكفارته، وحكم التناجي، وأدب المجالس، وتقديم الصدقة في بدء الأمر قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم المنافقين وجزائهم وتكذيبهم ووصفهم بأنهم حزب الشيطان، وموادة أعداء الله وموالاتهم. وتميزت الآيات كلها في هذه السورة باشتمال كل آية على لفظ الجلالة: (الله) لتربية المهابة منه في النفوس، وعدم التجرؤ على مخالفة أحكامها.
بدئت السورة ببيان سماع الله صوت امرأة هي خولة بنت ثعلبة، تجادل رسول الله ﷺ في شأن مصيرها من زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهر منها قائلا لها: «أنت علي كظهر أمي» وحكم الظهار في الجاهلية تحريم الزوجة تحريما مؤبدا، فبدّل الله ذلك الحكم، وجعل حكم الظهار التحريم المؤقت الذي يزول بإخراج كفارة الظهار المنصوص عليها في الآيات الأولى من هذه السورة: عتق رقبة، فصيام شهرين متتابعين، فإطعام ستين مسكينا (الآيات: ١- ٤) وأعقبت ذلك بالحكم بإذلال وخزي الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإحصاء أعمالهم وشهادته عليهم (الآيتان: ٥- ٦).
ثم ذكرت أدب التناجي في المجالس: وهو الكلام سرا بين اثنين فأكثر أمام الآخرين، وحرّمته إذا كان تناجيا بالإثم والعدوان، كما كان يفعل اليهود
والمنافقون، وأخبرت بأن الله يعلم سر الحديث الدائر بين اثنين فأكثر، وفضحت خبث اليهود ومكرهم وخداعهم حينما كانوا يحيون رسول الله ﷺ بتحية ظاهرها السلام، وباطنها الأذى والسب، قائلين: السام عليك يا محمد، أي الموت (الآيات: ٧- ١٠).
وأردفت ذلك ببيان أدب التفسح في المجالس، وطلب مغادرتها، وأشادت بالمؤمنين الذين يمتثلون أوامر الله وأوامر رسوله، وامتدحت العلماء منهم خاصة، وأوجبت تقديم الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفعت الحكم تخفيفا على المؤمنين وتيسير لقاء نبيهم، وجعلت محله الاشتغال بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله (الآيات: ١١- ١٣).
ثم أبانت مخازي المنافقين الذين يوالون اليهود ويحبونهم، ويفشون أسرار المؤمنين لهم، ويحلفون الأيمان الكاذبة، ويعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالفون أمرهما، فهم مخذولون مهزومون، والمؤمنون أعزة منصورون (الآيات: ١٤- ٢١).
وختمت السورة الكريمة بأمر المؤمنين بتجنب الخونة الذين يوالون أعداء الأمة ولو كانوا أقرب الناس إليهم، وينافقون ويتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء، لإضعاف كيان أمتهم وتفريق جمعهم، أما الأمة المتماسكة المتحابّة، فهي أمة الإيمان الحق، وأهل الجنة خالدين فيها أبدا.
والتفريق بين الموقفين: موقف الإيمان وموقف الكفر والنفاق يبين أن الحب ينبغي أن يكون لله، والبغض لله، وأن اكتمال الإيمان يتطلب معاداة أعداء الله (الآية: ٢٢).