
وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾، قال عطاء: يريد قومًا أسلموا من اليهود والنصارى (١).
وقال السدي: ﴿أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ مؤمنة (٢).
وقال ابن عباس: هم العادلة غير الغالية ولا الجافية (٣)، ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير (٤)، وأصله من القصد، وذلك أن القاصد إلى الشيء الذي يعرف مكانه، خلاف الطالب المتحير في طلبه، فهو يمر على الاستقامة إليه، وليس كالمتحير فيه، فالاقتصاد الاستواء في العمل المؤدي إلى الغرض (٥).
وقوله تعالى: ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾، يقول: بئس شيئًا عملهم (٦)، قال ابن عباس: "عملوا القبيح وما لا يرضي الله مع التكذيب بالنبي - ﷺ -" (٧).
٦٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ الآية، روى الحسن أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله بعثني برسالته، وضقت به ذرعًا، وعرفت أن الناس مكذّبي" وكان يهاب قريشًا واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه
(٢) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٦، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٣، "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٧.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٣، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٥.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٢ (قصد)، "اللسان" ٦/ ٣٦٤٢ (قصد).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢.
(٧) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٨.

الآية (١)، قال ابن الأنباري: كان النبي - ﷺ - يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة، ويخفي بعضه إشفاقًا على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعزه الله وأيده بالمؤمنين قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (٢).
وقال أبو إسحاق: أي لا تراقبن أحدًا ولا تتركن شيئًا مما أنزل إليك تخوفًا من أن ينالك مكروه (٣)، قالا (٤): والمعنى في قوله: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرًا به، فإن أخفيت منه شيئًا في وقت لخوف يلحقك فما بلغت رسالته، فذلك وله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (٥).
قال ابن عباس: يقول إن كتمت آية مما أنزلت عليك لم تبلغ رسالاتي (٦)، يعني: إنه إن ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، لأن تركه البعض محبط لإبلاغ ما بلغ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه لو لم يبلغ شيئًا مما أنزل الله، في أنه يستحق العقوبة من ربه (٧)، وحاشا لرسول الله أن
(٢) انظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٨، ٢٠٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢، انظر: "زاد المسير" ٢/ ٣٩٧.
(٤) أي الزجاج وابن الأنباري.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٩٢، انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٩.
(٦) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٧، وانظر: "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٠٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٧.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٩، "بحر العلوم" ١/ ٤٤٩، "النكت والعيون" ٢/ ٥٣، "تفسير البغوي" ٣/ ٧٩.

يكتم شيئًا مما أوحي إليه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن رسول الله - ﷺ - كتم شيئًا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى: ﴿وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] " (١).
قال مقاتل بن حبان: هذا تحريض من الله نبيه على تبليغ الرسالة (٢).
وقال مجاهد: لما نزلت ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ قال: "يا رب كيف أصنع؟ أنا واحد، أخاف أن يجتمعوا علي" فأنزل الله: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (٣).
فكل هذه الأقوال في تفسير هذه الآية تدل على أن النبي - ﷺ - كان يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفار، فكان لا يجاهرهم بعيب دينهم وسب آلهتهم، حتى أمنه الله تعالى بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، واختلفوا في قوله: ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فقرىء (رسالته) (٤) على (٥) واحدة، و (رسالاته) على الجمع (٦)، فمن جمع قال: إن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام في الشريعة مختلفة، وكل آية أنزلها (٧) الله على رسوله
(٢) بمعناه في تفسير مقاتل بن سليمان ١/ ٤٩٢.
(٣) أخرجه الطبري ٦/ ٣٠٧.
(٤) قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي "ابن كثير" وحفص عن عاصم. انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣٩.
(٥) تكرر هذا الحرف في (ج).
(٦) قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. انظر: "الحجة" ٣/ ٢٣٩.
(٧) في (ج): (أنزله) بالتذكير.

فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع (١)، ومن أفرد قال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضًا فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله تعالى: ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤] فوقع الاسم الواحد على الجمع كما يقع على الواحد، فكذلك الرسالة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، أي: يمنعك أن ينالوك بسوء من قتل أو أسر أو قهر (٣)، وقالت عائشة: كان رسول الله - ﷺ - يُحرس حتى نزلت هذه الآية: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ وكان سعدٌ وحذيفة يحرسانه، فأخرج رسول الله رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله" (٤).
وقال الزجاج في قوله: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾: أي يحول بينهم وبين أن يصيبك منهم مكروه (٥)، فإن قيل: أليس قد شج جبينه وكسرت رباعيته؟، قلنا: كان هذا قبل نزول الآية؛ لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، أو نقول: المراد بالعصمة: أن يعصمه من قتله وأسره على ما ذكرنا أولاً (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٧]، قال
(٢) "الحجة" ٣/ ٢٤٥، ٢٤٦.
(٣) انظر: "النكت والعيون" ٢/ ٥٣.
(٤) أخرجه بنحوه الترمذي (٣٠٤٦) كتاب: التفسير، باب: من تفسير سورة المائدة، "تفسير الطبري" ٦/ ٣٠٨، وعزاه في "الدر المنثور" ٢/ ٥٢٩ أيضًا إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩٢.
(٦) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٩، "زاد المسير" ٢/ ٣٩٧.