
سألوا رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عن الرسل الذين يؤمن بهم فتلا: آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى آخر الآية، فلما ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قيل: إنه معطوف على آمنا، وقيل: على ما أنزل، وقيل: هو تعليل معطوف على تعليل محذوف تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، ويحتمل أن يكون: وأنّ أكثركم مبتدأ وخبره محذوف تقديره فسقكم معلوم، أو ثابت قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ لما ذكر أن أهل الكتاب يعيبون المسلمين بالإيمان بالله ورسله، ذكر عيوب أهل الكتاب في مقابلة ذلك ردّا عليهم، فالخطاب في أنبئكم لليهود، والإشارة بذلك إلى ما تقدّم من حال المؤمنين مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ هي من الثواب، ووضع الثواب موضع العقاب تهكما بهم نحو قوله: فبشرهم بعذاب أليم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ يعني اليهود ومن في موضع رفع بخبر مبتدا مضمر تقديره: هو من لعنه الله، أو في موضع خفض على البدل من بشرّ ولا بدّ في الكلام من حذف مضاف تقديره بشر من أهل ذلك وتقديره دين من لعنه الله وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ مسخ قوم من اليهود قرودا حين اعتدوا في السبت ومسخ قوم منهم خنازير حين كذبوا بعيسى ابن مريم وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ القراءة بفتح الباء فعل معطوف على لعنه الله، وقرئ «١» بضم الباء وخفض الطاغوت على أن يكون عبد اسما على وجه المبالغة كيقظ أضيف إلى الطاغوت، وقرئ «٢» وعابد وعباد، وهو في هذه الوجوه عطف على القردة والخنازير شَرٌّ مَكاناً أي منزلة ونسب الشرّ للمكان وهو في الحقيقة لأهله، وذلك مبالغة في الذمّ وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في منافقين من اليهود وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ تقديره: ملتبسين بالكفر، والمعنى: دخلوا كفارا وخرجوا كفارا، ودخلت قد على دخلوا وخرجوا: تقريبا للماضي من الحال أي ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام ب الْإِثْمِ الكذب وسائر المعاصي وَالْعُدْوانِ الظلم السُّحْتَ الحرام لَوْلا يَنْهاهُمُ عرض وتحضيض وتقريع لَبِئْسَ اللام في الموضعين للقسم
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود ومنه:
ولا تجعل يدك مغلولة: أي لا تبخل كل البخل، ولا تبسطها كل البسط: أي لا تجد كل
(٢). لم يذكرها الطبري ولا ابن خالويه في كتاب الحجة ولا ابن زرعة في حجة القراءات والله أعلم. [.....]

الجود، وروي أنّ اليهود أصابتهم سنة جهد فقالوا هذه المقالة الشنيعة، وكان الذي قالها فنحاص، ونسبت إلى جملة اليهود، لأنهم رضوا بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا، ويحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فيحتمل أن يراد به البخل أو غل أيديهم في الأسر، وإن كان في الآخرة، فهل جعل الأغلال في جهنم بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه وجوده، وإنما ثنيت اليدان هنا وأفردت في قول اليهود: يد الله مغلولة، ليكون ردّا عليهم ومبالغة في وصفه تعالى بالجود: كقول العرب:
فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إيقاد النار عبارة عن محاولة الحرب، وإطفاؤها عبارة عن خذلانهم وعدم نصرهم، ويحتمل أن يراد بذلك أسلافهم، أو يراد من كان معاصرا للنبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم منهم، ومن يأت بعدهم، فيكون على هذا إخبار بغيب، وبشارة للمسلمين.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الآية: يحتمل أن يراد أسلافهم والمعاصرون للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، فيكون على هذا ترغيبا لهم في الإيمان والتقوى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إقامتها بالعلم والعمل وذكر الإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قيل: من فوقهم عبارة عن المطر، ومن تحت أرجلهم: عبارة عن النبات والزرع، وقيل: ذلك استعارة في توسعة الرزق من كل وجه أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي معتدلة، ويراد به من أسلم منهم: كعبد الله بن سلام، وقيل من لم يعاد الأنبياء المتقدمين يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلغ وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ، وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان: أحدهما أن المعنى إن تركت منه شيئا، فكأنك لم تبلغ شيئا، وصار ما بلغت لا يعتد به، فمعنى إن لم تفعل: إن لم تستوف التبليغ على الكمال، والآخر أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها، ووضع السبب موضع المسبب وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد وضمان للعصمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاف أعداءه ويحترس منهم في غزواته وغيرها، فلما نزلت هذه الآية قال: يا أيها الناس انصرفوا فإن الله قد