آيات من القرآن الكريم

۞ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ

مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
الإعراب:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إما مبتدأ وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أو صفة لموصوف محذوف تقديره: فريق سماعون، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم سماعون للكذب. وقد تزاد اللام في المفعول، كقوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٤]. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف ١٢/ ٤٣].

صفحة رقم 190

لَمْ يَأْتُوكَ: جملة فعلية في موضع جر صفة لقوم. ويُحَرِّفُونَ: جملة فعلية حال من ضمير سَمَّاعُونَ. والتقدير: يسمعون مقدّرين للتحريف. ويجوز أن تكون الجملة في موضع رفع لأنه صفة لموصوف محذوف في موضع رفع بالابتداء وتقديره: وفريق يحرفون، وهو عطف على سَمَّاعُونَ وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا. وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ الواو للحال من التحكيم، والعامل ما في الاستفهام من التعجب فِيها حُكْمُ اللَّهِ فِيها: إما متعلق بخبر مقدم، وإما ألا يكون له محل، وتكون الجملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وإما أنه حال من التوراة.
البلاغة:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ خوطب بلفظ الرسالة للتشريف والتكريم.
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آثر فِي على كلمة «إلى» للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر.
سَمَّاعُونَ.. صيغة مبالغة، أي مبالغون مكثرون في سماع الكذب.
خِزْيٌ تنكيره لتفخيم الأمر. وكرر قوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لزيادة التقرير والتأكيد.
فِي الدُّنْيا.. والْآخِرَةِ بينهما طباق.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجب من تحكيمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.
وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ الإشارة بالبعيد لبعد درجتهم في العتو والمكابرة.
المفردات اللغوية:
لا يَحْزُنْكَ لا يؤلمك فعل هؤلاء الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه بسرعة، أي يظهرونه إذا وجدوا فرصة مِنَ الَّذِينَ للبيان بِأَفْواهِهِمْ قالوا بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وهم المنافقون سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي أقرته أحبارهم، سماع قبول لِقَوْمٍ لأجل قوم آخَرِينَ من اليهود لَمْ يَأْتُوكَ وهم أهل خيبر يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ الذي في التوراة كآية الرجم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ التي وضعه الله عليها أي يبدلونه إِنْ أُوتِيتُمْ هذا الحكم المحرف أي الجلد أي أفتاكم به محمد فاقبلوه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أفتاكم بخلافه فِتْنَتَهُ اختباره وإضلاله.
خِزْيٌ ذل بالفضيحة والصغار لِلسُّحْتِ للكسب الحرام كالرشوة وثمن الكلب والخمر والخنزير، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات أي يذهبها فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة ٥/ ٤٩]

صفحة رقم 191

فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا مع مسلم، وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب القضاء بينهم بِالْقِسْطِ بالعدل الْمُقْسِطِينَ العادلين في الحكم، أي يثيبهم.
فِيها حُكْمُ اللَّهِ بالرجم، والمراد من قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ استفهام تعجيب أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم.
سبب النزول:
نزول الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ..:
روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس قال: أنزلها الله في طائفتين من اليهود، قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا فاصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقا «١»، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة، فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك، حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان ذلك في حيين قط؟ دينهما واحد، ونسبتهما واحدة، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنا أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وخوفا وفرقا، فأما إذ قدم محمد، فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما، فأرسلوا إليه ناسا من المنافقين ليختبروا رأيه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ الآية.
أي
أن الآية نزلت في بني قريظة والنضير، فتحاكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري.
وقيل:
إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فخانه، حين أشار إليهم أنه الذّبح «٢».

(١) الوسق: ستون صاعا، والصاع: ٢٧٥١ غم.
(٢) كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الأمر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح.

صفحة رقم 192

وقيل: إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم قال القرطبي: وهذا أصح الأقوال «١». والقصة ما يأتي:
روى الأئمة: مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن البراء بن عازب قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيهودي محمّما «٢» مجلودا، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: اللهم لا، ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، وأمر به فرجم، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ.
وأخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عمر قال: «إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا:
نسخّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فجاءوا بالتوراة، وجاؤوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا، فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك فرفع يده، فإذا هي تلوح (أي آية الرجم) فقالوا: يا محمد، إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجما، فلقد يجأ عليها (ينحني) يقيها الحجارة بنفسه»
.

(١) تفسير القرطبي: ٦/ ١٧٦ [.....]
(٢) التحميم: وضع الحمة أي الفحمة في الوجه، وهو التسخيم الوارد في الرواية الأخرى من السخام: وهو سواد القدر.

صفحة رقم 193

نزول الآية (٤٢) :
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: نزلت هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة، سمع كلامه، وعول عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعون منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. وقيل: سماعون للكذب الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أكالون للربا، كما قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء ٤/ ١٦١].
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى بعض التكاليف والشرائع، وأعرض عنها بعض الناس متسارعين إلى الكفر، صبّر الله رسوله على تحمل ذلك، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ...
وقد خاطب تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضع كثيرة، وما خاطبه بقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلا في موضعين:
أحدهما- هاهنا، والثاني- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة ٥/ ٦٧] وهذا خطاب تشريف وتعظيم.
التفسير والبيان:
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: وهم المنافقون واليهود.

صفحة رقم 194

فقال: يا أيها الرسول: وهو خطاب تشريف وتعظيم وتعليم للمؤمنين أن يخاطبوه بوصفه، كما قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور ٢٤/ ٦٣] فأصبحوا ينادونه بقولهم: «يا رسول الله» بعد أن كانوا ينادونه «يا محمد».
لا يحزنك أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في إظهار الكفر، والانحياز إلى جانب الأعداء، كلما سنحت لهم الفرصة، فإني ناصرك عليهم، وكافيك شرهم.
وليس المراد النهي عن الحزن ذاته لأنه أمر طبعي جبلّي لا اختيار للإنسان فيه ولا تكليف به، وإنما المراد النهي عن لوازمه من مقدمات ونتائج من تعظيم شأن الحزن، وتعاطي أسبابه.
ثم بين من هؤلاء، وهم الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون، واليهود أعداء الإسلام وأهله الذين يصغون لسماع الكذب من أحبارهم، سواء فيما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أو بأحكام دينهم، والكل سماعون لأقوام آخرين من اليهود الذين لا يأتون مجلسك يا محمد، فهم جواسيس ليبلغوهم ما سمعوا منه، ومعنى قوله: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ.. أي لأجل قوم.
وأولئك اليهود يحرفون كلام التوراة من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه، أي يحرفونه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بالزيادة فيه والنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير معناه الحقيقي، وتأويله بمعنى آخر، وتبديله عن إصرار وعلم بالحقائق.
وهم يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليسألوه عن حكم الزانيين المحصنين: إن أفتاكم بالتسخيم (أو التحميم) والجلد، فاقبلوا منه وارضوا به، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبوله ولا ترضوا به.

صفحة رقم 195

والحال أنه من يرد الله اختباره في دينه، فيظهر الاختبار كفره وضلالته، فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه، ولن تملك له أيها الرسول من الله شيئا يمنع ذلك، ولن تستطيع هدايته وإرشاده إلى الحق.
فهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهر الاختبار مقدار فسادهم لأنهم يقبلون الكذب، ويحرفون أحكام دينهم، اتباعا لأهوائهم، فلا تحزن عليهم، ولا تطمع بعد هذا بإيمانهم.
أولئك الذين اختبرهم الله هذا الاختبار لم يرد الله بعدئذ تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق لأن من دأب على الباطل، وأمعن في السوء والشر، لم يبق فيه أمل للخير، ولم يعد له سبيل للنور ورؤية الحق.
وجزاء الفريقين من اليهود والمنافقين الخزي في الدنيا، والعذاب العظيم الهول الشديد الوقع في الآخرة، أما خزي المنافقين في الدنيا فهو افتضاح أمرهم وظهور كذبهم للنبي وخوفهم من القتل، وأما خزي اليهود فهو أيضا فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص كتابهم في إيجاب الرجم على الزناة المحصنين.
ثم كرر تعالى وصفهم للتأكيد وتقرير المعنى، وهو كثرة سماعهم للكذب، وكثرة أكلهم للسحت، أي المال الحرام من أخذ الرشوة، واستباحة أجر البغي (الزانية) وعسب الفحل (أجرة ضرابه) وثمن الخمر والميتة وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعاصي، كما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد. ويرجع أصل ذلك إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة، ويعيّر به الإنسان «١».
ثم خيّر الله تعالى رسوله بالحكم بين اليهود والإعراض عن الحكم، فقال فيما معناه: فإن جاؤوك متحاكمين إليك، فأنت بالخيار بين الحكم أو القضاء بينهم،

(١) تفسير الرازي: ١١/ ٢٣٥

صفحة رقم 196

والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم وعلمائهم. وهذا التخيير خاص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم دون أهل الذمة، فأهل الذمة يجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا لأن من عقد معهم عقد الذمة التزموا أحكام الإسلام في الجرائم والمعاملات، إلا في بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرون عليه، ولا يرجم الزناة المحصنون في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الإسلام من شروط الرجم، ويرجمون في رأي الشافعي وأحمد عملا بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان.
وبهذا يوفق بين هذه الآية وآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (الآية ٤٩ الآتية) وهو رأي الشافعية. وقيل: نسخت الآية الأولى بالثانية، وهو قول ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وعكرمة.
وإن تعرض عن الحكم بينهم فلن يلحقك شيء من ضررهم وعداوتهم، فالله حافظك وعاصمك من الناس. والغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين اللذين خير فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم اغتاظوا وربما حاولوا أذاه، فبين تعالى أنه لا تضره عداوتهم له.
وإن حكمت بينهم، فاحكم بالعدل الذي أمرت به، إن الله يحب العادلين، والعدل شرعة القرآن والإسلام، سواء بين المسلمين، أو مع الأعداء.
وكيف يحكّمونك في قضية مثل الزانيين؟ وعندهم التوراة فيها شريعتهم وحكم الله، ثم يتولون ويعرضون عن حكمك بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون.
هذه الآية تعجب من تحكيمهم، لعدولهم عن حكم كتابهم، ورجوعهم إلى حكم من يعتقدونه مبطلا، وإعراضهم عن حكمه بعد تحكيمه.

صفحة رقم 197

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن اليهود حكّمت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة، واستند في ذلك إلى قول ابن صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان.
فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام: فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب ونحوها من مسائل الجنايات، حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف.
وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي لقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وهو نص في التخيير. غير أن مالكا رأى أن الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة ٥/ ٤٩].
ودلت الآية على أن التحكيم جائز، قال مالك: إذا حكّم رجل رجلا فحكمه ماض، وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكون جورا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه صوابا. قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان. والضابط أن كل حق اختصم الخصمان به جاز التحكيم فيه، ونفذ تحكيم المحكم به «١».
وقال الشافعي: التحكيم جائز، وهو غير لازم، وإنما هو فتوى لأنه لا يقدم آحاد الناس على الولاة والحكام، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم.
وظاهر الآية دل على أن المحكّم ينفذ حكمه فيما حكم فيه، فإن اليهود حكموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفذ حكمه فيهم.

(١) أحكام القرآن: ٢/ ٦١٩

صفحة رقم 198

وعقاب المحرّفين: خزي في الدنيا بفضيحتهم حين أنكروا الرجم، وإذلالهم وعذاب عظيم جدا في الآخرة.
ودلت الآية: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ على كثرة سماع اليهود الكذب وكثرة أكلهم المال الحرام، كالرشوة في الحكم وحلوان الكاهن (أي ما يعطى على الكهانة) ومهر البغي وغير ذلك مما ذكر.
والرشوة حرام في كل شيء، وهي قد تكون في الحكم أو التقاضي، وهي محرمة على الراشي والمرتشي،
قال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش الذي يمشي بينهما» «١»
لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه، كان فاسقا لقبوله الرشوة على أن يحكم له بما يريده، وإن حكم بالباطل، كان فاسقا لأخذه الرشوة وحكمه بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم أو القضاء، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما قال الحسن:
«لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه». وحينما كان ابن مسعود بالحبشة رشا دينارين وقال: «إنما الإثم على القابض، دون الدافع».
وأرشدت الآية: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ... إلى التخيير في الحكم بين المعاهدين أهل الموادعة، لا أهل الذمة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة وادع اليهود، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟.
قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي، واختلفوا في الذميين.

(١) رواه أحمد في مسنده عن ثوبان، وهو حديث صحيح.

صفحة رقم 199

والنبي صلّى الله عليه وسلّم حكم بينهم بشريعة موسى عليه السلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود. أما الآن وقد أكمل الله الدين وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية.
ويلاحظ أن أقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به.
والجمهور على رد شهادة الذمي لأنه ليس من أهلها، فلا تقبل على مسلم ولا كافر، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذا لم يوجد مسلم.
فإن قيل: فقد حكم عليه الصلاة والسلام بشهادتهم ورجم الزانيين، فالجواب: أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل، إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما.
وأوضحت الآية مثلما ذكر في آيات أخرى أن بعض اليهود لا كلهم يحرفون كلام التوراة على غير حقيقته، أي يتأولونه على غير تأويله، بعد أن فهموه وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل، وبيّن أحكامه، مثل جعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين، تغييرا لحكم الله عز وجل.
ودلت آية: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة، على أن الضلال بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، وأنه لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم، كما طهرت قلوب المؤمنين ثوابا لهم «١».

(١) تفسير الرازي: ١١/ ٢٣٣، تفسير القرطبي: ٦/ ١٨٢

صفحة رقم 200

فذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أن الآية محكمة وثابتة في سائر الأحكام غير منسوخة، وأن الحاكم مخير، وهي مخصوصة في المعاهدين الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة، فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك. أما أهل الذمة فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم إذا تحاكموا إليه، لكن في رأي مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن لا يحد الذميون حد الزنى. ورأى الشافعي وأبو يوسف: أنهم يحدون إن أتوا راضين بحكمنا.
وذهب أبو حنيفة والنخعي وعمر بن عبد العزيز إلى أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وأن على الحاكم أن يحكم بين أهل الذمة. وهو رأي ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة. قال مجاهد:
لم ينسخ من المائدة إلا آيتان: قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ [المائدة ٥/ ٢] نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥].
قال الرازي: احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا، ما لم ينسخ، وهو ضعيف، ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه، لكن الشرع نهى عن النظر فيها، بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم».

(١) تفسير الرازي: ١١/ ٢٣٦

صفحة رقم 201
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية