آيات من القرآن الكريم

۞ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

حَكِيمٌ (٣٨) في شرائعه وتكاليفه فَمَنْ تابَ إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته وَأَصْلَحَ بأن يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أي يقبل توبته تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا عليه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) فلا يعذبه في الآخرة ولا يسقط عنه القطع بالتوبة بل يقطع على سبيل الامتحان عند الجمهور. وقيل: يسقط بها الحد. وقال الشافعي: إن عفا المستحق عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف شاء يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) فيقدر على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما بحسب ما تقتضيه مشيئته تعالى ونحن نعتقد أن المغفرة تابعة للمشيئة في حق غير التائب
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي لا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه المكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم.
وقرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. وقرئ «يسرعون» من أسرع والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي إن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب في دين الله وفي طعن محمد صلّى الله عليه وسلّم من أحبارهم ونقله إلى عوامهم وسماع الحق منك، ونقله لأحبارهم ليحرفوه. أي فيكونوا وسائط بينك وبين قوم آخرين، والوسائط هم يهود بني قريظة كعب وأصحابه. والقوم الآخرون هم يهود خيبر فهم لا يقربون مجلسه صلّى الله عليه وسلّم لبغضهم إياه وتكبرهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يضع هؤلاء الأحبار الجلد مكان الرجم، والطعن في محمد مكان المدح في التوراة يَقُولُونَ أي المحرفون وهم القوم الآخرون للسماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل: إِنْ أُوتِيتُمْ من جهة محمد هذا المحرف من جلد المحصن فَخُذُوهُ أي فاقبلوا منه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ولا تقبلوا منه.
قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وهما محصنان وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوهما مع قوم منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حكمه في الزنيين. وقالوا: إن أمركم بالجلد وتسويد الوجه فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا رسول الله عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا. فقال الرسول: «هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟». قالوا: نعم. فقال: «هو أيّ

صفحة رقم 268

رجل فيكم؟» فقالوا: هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما في التوراة. فقال: «فأرسلوا إليه» فأتاهم، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم. قال: «وأنت أعلم اليهود؟». قال:
كذلك يزعمون، فقال لهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون به حكما؟» قالوا: نعم. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور وأنجاكم، وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من
أحصن؟»
. قال ابن صوريا: نعم. فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فأجابه عنها، فقال ابن صوريا: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون، ثم أمر رسول الله بالزانيين فرجما عند باب مسجده
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي ضلالته كفره فَلَنْ تَمْلِكَ أي تستطيع لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً على دفعها أُولئِكَ أي اليهود والمنافقون الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي ذل بالفضيحة للمنافقين بظهور نفاقهم بين المسلمين وخوفهم من قتل المسلمين إياهم والجزية والافتضاح لليهود بظهور كذبهم في كتمان التوراة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) وهو الخلود في النار سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذين كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام الذي يصل إليهم من الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسيب الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعصية.
روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم ذلالهم. فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يخيّر في ذلك. وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدهما، وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمهما ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعا. وكذا الذمي مع المعاهدين وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي فإنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلّى الله عليه وسلّم إلا لطلب الأخف، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فلا تضره عداوتهم له فإن الله يعصمه من الناس وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أمرت به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) أي يثيب العادلين في الحكم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ استفهام تعجيب من الله لنبيه من تحكيمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذين يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما

صفحة رقم 269

قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما طلبوا ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم ثم يعرضون عن حكمه صلّى الله عليه وسلّم الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، والرضا بحكمه صلّى الله عليه وسلّم فقوله تعالى: وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل يُحَكِّمُونَكَ. وقوله تعالى:
فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة. وقوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ معطوف على يُحَكِّمُونَكَ.
وَما أُولئِكَ أي البعداء من الله بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها ولا بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وإن طلبوا الحكم منك وذلك دليل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن مقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً أي بيان الأحكام والشرائع والتكاليف وَنُورٌ أي بيان للتوحيد والنبوة والمعاد يَحْكُمُ بِهَا أي انقادوا لحكم التوراة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها.
وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، ولأنه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء. وقال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى. فردّ الله عليهم بذلك. أي فإن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين أي منقادين لتكاليف الله تعالى. وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بيحكم أي يحكمون بها فيما بين اليهود وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي ويحكم بها العلماء المجتهدون الذين انسلخوا عن الدنيا وسائر العلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بسبب الذي استحفظوا من جهة النبيين مِنْ كِتابِ اللَّهِ وهو التوراة. فإن الأنبياء سألوا الربانيين والأحبار أن يحفظوا التوراة من التغيير والتبديل وذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها وَكانُوا عَلَيْهِ أي ذلك الكتاب شُهَداءَ أي كان هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق وأنه من عند الله، فحقا كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ أيها اليهود وَاخْشَوْنِ أي إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين

صفحة رقم 270

من الناس بل كانوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة عرضا قليلا من الدنيا أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤).
قال ابن عباس: ومن لم يبين ما بيّن الله في التوراة من نعت محمد وآية الرجم فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة: أي ومن لم يحكم بما أنزل الله منكرا له بقلبه وجاحدا له بلسانه فقد كفر، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنه حكم بضده فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي فرضنا على نبي إسرائيل في التوراة أَنَّ النَّفْسَ مقتولة بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أي ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة كالشفتين، والذكر والأنثيين، والقدمين واليدين. فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منها التلف ففيه أرش وحكومة.
قرأ الكسائي «العين والأنف والأذن والسن والجروح» كلها بالرفع. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بنصب الكل غير «الجروح» فإنه بالرفع. وقرأ نافع وعاصم وحمزة بنصب الكل وخبر الجميع قصاص فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص من المستحقين فَهُوَ أي التصدق كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمتصدق. يكفر الله تعالى بها ذنوبه أي إذا عفا المجروح أو ولي المقتول كان ذلك العفو كفارة للعافي كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس»
«١».
وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه»
. وقيل: إن المجني عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني وسقط عنه ما لزمه فلا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المجني عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى، ثم القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ندما على ما فعل خوفا من الله تعالى وتوبة نصوحا، سقط حق الله تعالى بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه

(١) رواه البغدادي في موضع أوهام الجمع والتفريق (١: ٢٧)، والألباني في إرواء الغليل (٨: ٣٢).

صفحة رقم 271

يوم القيامة عن عبده التائب، ويصلح بينه وبينه ولو سلم القاتل نفسه اختيارا من غير ندم وتوبة أو لم يمكن من نفسه بل قتل كرها فيسقط حق الوارث فقط ويبقى حق الله تعالى، لأنه لا يسقطه إلا التوبة ويبقى حق المقتول أيضا ويطالبه به في الآخرة، لأن القاتل لم يسلم نفسه تائبا ولم يصل منه للمقتول شيء وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) بالتقصير في حق النفس لإبقاء النفس في العقاب الشديد والتدين بترك حكم الله نهاية الظلم وهو الكفر لإنكار نعمة الله تعالى وجحدها وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي أتبعنا على آثار النبيين الذين يحكمون بالتوراة بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبل عيسى مما أتى به موسى مِنَ التَّوْراةِ ومعنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى وأقر بأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً لاشتماله على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الزوجة والولد والمثل والضد وعلى النبوة وعلى المعاد وَنُورٌ لأنه بيان للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي قبل الإنجيل مِنَ التَّوْراةِ وهذا المنصوب معطوف على محل فيه هدى وهو النصب على الحال، أي موافقا لما في التوراة من أصول الدين ومن بعض الشرائع ومن كون الإنجيل مبشرا بمبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُدىً لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو سبب لاهتداء الناس إلى النبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهذه المسألة أشد المسائل احتياجا إلى البيان فالإنجيل يدل دلالة ظاهرة عليها لكثرة المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى في ذلك وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) لاشتماله على النصائح والزواجر وإنما خص الموعظة بالمتقين لأنهم الذين ينتفعون بها وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الأحكام التي لم تنسخ بالقرآن فإن الحكم بالأحكام المنسوخة ليس حكما بما أنزل الله فيه بل هو تعطيل له إذ هو شاهد بنسخها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة بنسخها.
وقرأ حمزة «وليحكم» بكسر اللام ونصب الفعل بأن مضمرة بعد لام كي وهو متعلق بمقدر. أي وآتيناه الإنجيل ليحكموا به. وقرأ الباقون «وليحكم» بسكون اللام وجزم الفعل بلام الأمر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) أي الخارجون عن الإيمان إن كان مستهينا به وعن طاعة الله إن كان لاتباع الشهوات وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالصدق والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أو من فاعل أنزلنا أو من الكاف في إليك مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لم تقدمه مِنَ الْكِتابِ أي من كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي شاهدا على الكتب كلها، لأن القرآن هو الذي لا ينسخ ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على سائر الكتب بالصدق باقية.

صفحة رقم 272

وقرأ ابن محيصن ومجاهد «مهيمنا» بفتح الميم الثانية، فإن القرآن يصان عن التحريف والتبديل والحافظ هو الله تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فإن ما أنزل الله إليك وهو القرآن مشتمل على جميع الأحكام الشرعية وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ و «عن» متعلقة «بلا تتبع» على تضمين معنى تتزحزح ونحوه أي لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي لكل واحد من الأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى، وأمة محمد جعلنا منكم أيها الأمم شريعة وهي العبادة التي أمر الله بها عباده، ومنهاجا أي طريقا واضحا يؤدي إلى الشريعة، فالتوراة شريعة للأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى. والإنجيل شريعة من مبعث عيسى إلى مبعث سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والقرآن شريعة للموجودين من سائر المخلوقات في زمنه صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة ليس إلا والدين واحد وهو التوحيد وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأعصار من غير اختلاف ولا نسخ ولا تحويل. أو المعنى لجعلكم ذوي أمة واحدة أي دين واحد وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ولكن لم يشأ الله أن يجعلكم أمة واحدة بل شاء أن يختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة المناسبة للأزمنة والجماعة. هل تعملون بها منقادين لله معتقدين أن اختلافها مبني على الحكم اللطيفة والمصالح النافعة لكم أم تتبعون الهوى وتقصرون في العمل؟ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا يا أمة محمد إلى ما هو خير لكم في الدارين وابتدروه انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) في الدنيا من أمر الدين أي فيخبركم بما لا تشكون فيه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والموفى والمقصر في العمل فإن الأمر سوف يرجع إلى ما يحصل معه اليقين، وذلك عنده مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وهذه الجملة معطوفة على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم وذكر إنزال الحكم لتأكيد وجوب امتثال الأمر، أو على قوله بالحق أي أنزلنا إليك الكتاب بالحق وبالحكم وذكر إنزال الأمر بالحكم بعد الأمر الصريح به تأكيد للأمر وتفريش لما بعده، ولأن الآيتين حكمان أمر الله بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه صلّى الله عليه وسلّم في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في عدم الشريف بالوضيع وعدم قتل الرجل بالمرأة وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي يميلوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ويردوك إلى أهوائهم وكان بنو النضير إذا قتلوا من قريظة أدوا إليهم نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، ويقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين فغيروا حكم الله الذي أنزله في التوراة فما لهم يخالفون.

صفحة رقم 273
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية