
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
سورة المائدة
هذه السورة مدنية بإجماع. وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله ﷺ من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية قال: يا عليّ أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي ﷺ ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع. ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: ٢] الآية. وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي ﷺ فهو مدني سواء ما نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار أو بمكة. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وروي أن النبي ﷺ قال: سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)قال علقمة: كل ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني. وقد تقدم القول في مثل هذا. ويقال:
وفى وأوفى بمعنى واحد، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود. وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره. ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب. إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد ﷺ ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود» بالعهود.
وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة (أوفوا بالعقود) معناه بعهد الجاهلية. روي لنا عن رسول الله ﷺ أنه قال: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به صفحة رقم 143

المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك والوفاء بذلك العهد، وأما عهد خاص لما عسى أن يقع يختص المتعاهدون بالنظر فيه والمنفعة كما كان في الجاهلية فلا يكون ذلك في الإسلام. قال الطبري: وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله ﷺ عن حلف الجاهلية، فقال لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم الله، قال نعم يا نبي الله، قال لا يزيده الإسلام إلا شدة. وقال ابن عباس رضي الله عنه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ معناه بما أحل الله وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، قاله مجاهد وغيره.
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود» في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف.
قال القاضي أبو محمد: وقد تنحصر إلى أقل من خمس، وقال ابن جريج قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم، وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله ﷺ الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فكتب الآيات منها إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [المائدة: ٤].
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. ومن لفظ العقد قول الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم | شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا |
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال أحلت لكم «الأنعام» فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن: بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة، وقال ابن عباس: هذه الأجنة من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، قال الطبري: وقال قوم بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن الضحاك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وذلك أن «الأنعام» هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن صفحة رقم 144

حد «الأنعام» فصار له نظر ما، ف بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الراعي من ذوات الأربع وهذه على ما قيل إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع، وما هي عندي إلا إضافة الشيء إلى جنسه وصرح القرآن بتحليلها.
واتفقت الآية وقول النبي عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام»، ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان. والثاني استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع. والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم، وليل بهيم، وبهمة، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ استثناء ما تلي في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: ٣]. وما في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إِلَّا عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب غَيْرَ على الحال من الكاف والميم في قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالرفع ووجهها الصفة للضمير في يُتْلى لأن «غير محلي الصيد» هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا أو يتخرج على الصفة ل بَهِيمَةُ على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت.
قال القاضي أبو محمد: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء وحرم جميع حرام وهو المحرم ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني | حرام وإني بعد ذاك لبيب |
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ خطاب للمؤمنين حقا أن لا يتعدوا حدود الله صفحة رقم 145

في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حده وطاعته فهي بمعنى معالم الله، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي شَعائِرَ اللَّهِ حرم الله، وقال ابن عباس شَعائِرَ اللَّهِ مناسك الحج. وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وقال ابن عباس أيضا شَعائِرَ اللَّهِ ما حد تحريمه في الإحرام. وقال عطاء بن أبي رباح، شَعائِرَ اللَّهِ جميع ما أمر به أو نهى عنه، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم. وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية، وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه. وتزيل فيه السلاح، وتنزع الأسنة من الرماح، وتسميه منصل الأسنة وتسميه الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفرا فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: ٣٧] وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله علم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته..
قال القاضي أبو محمد: والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصا بقريش ثم فشا في مضر، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا | إذا حبست مضرجها الدماء |
قال القاضي أبو محمد: فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه، وقال عكرمة: المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها، وقولنا فيها «أول» تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم.
وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه، واختلف الناس في الْقَلائِدَ فحكى الطبري عن ابن عباس أن الْقَلائِدَ هي الْهَدْيَ المقلد وأن الْهَدْيَ إنما يسمى هديا ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي» الذي يقلد والمقلد منه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن الْهَدْيَ إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال الْهَدْيَ جملة ثم ذكر صفحة رقم 146

المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد، وقال جمهور الناس: الْهَدْيَ عام في أنواع ما أهدي قربة والْقَلائِدَ ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، قال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره: بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني.
وقال مجاهد وعطاء: بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره، وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول الله ﷺ يوما لأصحابه: «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فجاء الحطم فخلف خيله خارجة من المدينة ودخل على رسول الله ﷺ فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال: أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره.
فخرج فقال النبي عليه السلام «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر»، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول:
قد لفها الليل بسواق حطم | ليس براعي إبل ولا غنم |
ولا بجزار على ظهر وضم | باتوا نياما وابن هند لم ينم |
بات يقاسيها غلام كالزلم | خدلج الساقين خفاق القدم |
وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فنزلت هذه الآية، قال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه، وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله ﷺ بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون، فقال المسلمون يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال القاضي أبو محمد: فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت» بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورضوانا» بضم الراء. صفحة رقم 147

قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.
قوله تعالى:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا...
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول، وقوله تعالى: فَاصْطادُوا صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات، فقال الفقهاء: هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل، وقال قوم: هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد تجيء للندب كقوله:
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: ٧٧] وقد تجيء للإباحة كقوله فَاصْطادُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: ١٧]، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا، وقد تجيء للوعيد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وقد تجيء للتعجيز كقوله كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: ٥٠] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا» بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذ بدأت فقلت: اصطادوا فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسرة ألف الوصل، وقوله تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب، وفي الحديث: وتكسب المعدوم، قال أبو علي: وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحق لكم كما أن لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: ٦٢] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحملنكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر: [أبو خراش الهذلي] :
جريمة ناهض في رأس نيق | ترى لعظام ما جمعت صليبا |

«يجرمنكم» بضم الياء والمعنى أيضا لا يكسبنكم وأما قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة | جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا |
قال القاضي أبو محمد: فأما من قرأ «شنآن» بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره، ويحتمل «الشنان» بفتح النون أن يكون وصفا فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم: حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ومنه ما أنشده أبو زيد:
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي | وفقأت عين الأشوس الأبيان |
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا إنما هو تخفيف من «شنآن» الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي، قال أبو علي: من زعم أن فعلان إذا أسكنت علينه لم يك مصدرا فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفا فقد حكي: رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا وإذا قدرت اللفظة مصدرا فهو مصدر مضاف إلى المفعول، ومما جاء وصفا على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان.
قال القاضي أبو محمد: ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله ﷺ وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان، وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما صفحة رقم 149