تفسير سورة المائدة عدد ٢٦ و ١١٢ و ٥
نزلت بالمدينة بعد سورة الفتح عدا الآية (٥) المذكور فيها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ، فإنها نزلت في عرفات في حجة الوداع والتي واقف فيها. وهي مئة وعشرون آية، وأربعة آلاف ومئة وثلاثون كلمة، وعشرة آلاف وخمسمائة حرف، تقدمت السّور المبدوءة بما بدئت في سورة الكافرين ج ١، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» العهود والمواثيق والإيمان والوعود وكلّ ما ألزمتموه أنفسكم مما يسمى عقدا ويدخل فيه عقود الأنكحة والبيع والشّراء والرّهن والشّركة وغيرها مما أحله الله لكم وحرمه عليكم. ثم شرع بتفصيلها فقال عز قوله «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» يدخل فيها كلّ بهيمة لأن النّكرة إذا أضيفت عمت، ولكن هذه الإضافة على تقدير من أي بهيمة من الأنعام المحلل أكلها فيخرج من عمومها ذوات الحوافر وما لم يعرف من الأنعام كالضواري والسّباع وبقية الوحوش مما لم يؤكل أما الظّباء وبقر الوحش وحماره وما يؤكل من أمثالها فتؤكل، وقال ابن عباس ومن بهيمة الأنعام الجنين والحكم الشّرعي فيه هو إذا ذبحت أمه وخرج حيا ذبح وأكل بلا خلاف، وإن خرج ميتا فلا، وما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أي كذكاتها بأن يذبح مثلها لا أن ذبح أمه ذبح له ولو خرج ميتا، وقال الشّافعي يؤكل ولو خرج ميتا، لما جاء في بعض الأخبار أنه ككبدها، وكأنه رضي الله عند تلقى الحديث برفع ذكاة، فيكون المعنى ذكاته هي ذكاة أمه وتلقاه أبو حنيفة ومن تبعه بالنّصب، وعليه يكون المعنى ذكاته كذكاة أمه رحم الله الجميع ورضي عنهم وأرضاهم فكل ما يطلق عليه لفظ بهيمة على ما ذكر أعلاه حل لكم أيها النّاس «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» تحريمه فيما يأتي فهو حرام عليكم، وهذا التحليل ليس على إطلاقه أيضا فيما أحل لكم، إذ قد يستثنى منه في بعض صفحة رقم 285الأحوال منها ما هو في قوله تعالى «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» لأنه وان كان حلالا إلا أنه يحرم عليكم «وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» في حرم مكة شرفها الله، إذ لا يجوز لكم صيد شيء من تلك البهائم ولا أكله تبعا لحرمة صيده، وليس لكم أن تعترضوا على أحكام الله فيما يحلل ويحرم «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» (١) في شؤون خلقه لا يسأل عما يفعل، ولا راد لحكمه، ولا معقب لما يحكم، فله أن يتعبدكم بما تعلمون سببه ونفعه وضره ومالا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» بسبب أنكم لا تعقلون المراد منها ولا فائدتها ولا نتيجتها، بل عليكم أن تعتقدوا ما حرم عليكم لمجرد تحريمه، وحل ما أحله لكم بمطلق تحليله، بقطع النّظر عن الأسباب الداعية لذلك. وسبب نزول هذه الآية أن الخطيم شريح بن هند بن ضبة البكري أتى المدينة وحده وترك خيله وراءها ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال إلام تدعو النّاس؟ فقال إلى شهادة أن لا أله إلّا الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة، فقال حسن الا إن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وخرج فقال صلّى الله عليه وسلم دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر، وما الرّجل بمسلم، فلما ذهب مرّ بسرح المدينة فاستساقه، فلما كان العام القابل خرج حاجّا مع بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة وقلد الهدي، فقالوا يا رسول الله هذا الخطيم فخلّ بيننا وبينه فقال إنه قلد الهدي، فقالوا هذا شيء كنا نفعله بالجاهلية، فأبى صلّى الله عليه وسلم، فنزلت بمنع التعرض لمن يقدم البيت بأحد شعائر أعلام الدّين ومناسك الحج والعمرة، إلا أن هذا على فرض صحته لا يقيد الآية بما ذكر ولا يخصصها فيه بل هي عامة في النهي عن استحلال كلّ شعيرة من شعائر الله «وَلَا» تحلوا أيها النّاس «الشَّهْرَ الْحَرامَ» بأن تقاتلوا فيه من لم يقاتلكم فيه، أما إذا بدأكم أحد بالقتال فيه فقاتلوه لأنه يكون دفاعا مشروعا. راجع الآية ١٩٢ من البقرة «وَلَا» تحلوا «الْهَدْيَ» المساق إلى البيت الحرام «وَلَا الْقَلائِدَ» البدن المقلدة إعلاما بأنها مهداة إلى البيت، إذ لا يجوز أخذها بوجه من الوجوه لاختصاصها بالحرم «وَلَا» تحلوا قتال «آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» أي قاصدينه «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً» منه في الآخرة وربحا في الدّنيا بتجارتهم فيه. تشير
صفحة رقم 286
هذه الآية إلى تحريم ذلك كله وتحذير النّاس من استحلال شيء منه لما فيه من إهانة البيت الواجب تعظيمه الذي جعله الله أمنا للناس ومخالفة أمر الله في ذلك.
مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:
قال علماء النّاسخ والمنسوخ لم ينسخ من المائدة إلّا هذه الآية، والنّاسخ لها قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية ٥ من التوبة فتكون ناسخة لقوله تعالى (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) الآية المارة فقط، وإن قوله (وَلَا آمِّينَ) الفقرة منها منسوخة بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية ٣٠ من التوبة أيضا. وقال بعضهم لم ينسخ منها إلّا جملة (وَلَا آمِّينَ) والنّاسخ لها الآيتان المذكورتان من التوبة الآتية. وقال بعضهم لم ينسخ إلّا كلمة القلائد لأنها من أعمال الجاهلية لأنهم كانوا يقلدون الهدي بشيء من لحاء الشّجر وشبهه، وقد ترك هذا بالإسلام. والقول الحق أن لا نسخ لشيء من ذلك أبدا كما ذهب إليه الواحدي وجماعة من علماء التفسير. وهذه الآية كلها محكمة كسائر السّورة، ومما يرد على القائلين بالنسخ هو أن الله تعالى لم يندبنا إلى إخافة من يقصد بيته من أهل شريعتنا، لا في الشّهر الحرام ولا في غيره، وهو الأوجه، لأن الآية مطلقة وليس لنا أن نقيدها بغير المؤمنين فنصرفها عن ظاهرها ونقول بالنسخ، ولأن آية براءة في المشركين خاصة فنصرفها إليهم كما صرفها الله، لأن المشرك لو قلد نفسه بجميع ما يدل على الشّعائر الإسلامية لا يؤذن له بالدخول إلى المسجد الحرام بعد نزول تلك الآية وإلى الأبد حتى يسلم، والقول الحق هو أنه ما دام يوجد للآية محمل على إحكامها فلا يليق أن نصرفها لغيره وننتحل طرقا للنسخ فنخرج عن صدد ما ترمي إليه آيات الله، فرحم الله علماء النّاسخ والمنسوخ ما أغلاهم فيهما، ولو صرفوا جهدهم هذا لغيره لكان خيرا لهم «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هذا أمر إباحة كقوله تعالى (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) لأن الله حرم الصّيد على المحرم حالة إحرامه بالحرم وحرم البيع حالة النداء إلى الجمعة، فإذا أحل المحرم جاز له الصّيد كما إذا قضيت الصّلاة حل له البيع، راجع آخر سورة الجمعة المارة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويكسبنكم
ويوقعنكم في الجريمة «شَنَآنُ» بغض وكراهة «قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» في حادثة الحديبية وغيرها «أَنْ تَعْتَدُوا» عليهم بعد أن فتح الله عليكم وأظهركم عليهم وأعتقهم رسولكم لقوله أنتم الطّلقاء بعد أن استسلموا اليه، ولهذا صدر الله هذه السّورة بالأمر بالوفاء «وَتَعاوَنُوا» أيها المؤمنون «عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» فيما بينكم واعفوا عمن أساء إليكم وغضوا عن مساويهم ومنهم الخطيم المذكور، لأن مجيئه إلى الحرم متلبسا باعلام الحج قبل نزول آية منع المشركين منه، فلا تتعرضوا له «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» بقصد الانتقام والتشفي بل اجتنبوا كلّ ما يؤثمكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» بجميع أموركم وفيما بينكم وبين غيركم واحذروا عقاب الله أن تقدموا على شيء من محارمه «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (٢) لمن يتعد حدوده فلم يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه ثم بين المراد من قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المذكورة في الآية الأولى بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد بالميتة الميتة حتف أنفها، لأن الموت في غالب الأحوال لا يكون إلّا عن مرض وهو يقلل من نفع الحيوان وكثيرا ما يجعله ضارا وقد يصاب آكله من نوع ذلك المرض، وإذا كان الموت عاديا فإن دمه يبقى في عضلاته بما يحمل من مواد ضارة وأخرى سامّة قد تؤدي إلى وفاة الآكل، أما ما يقال بان الطّبخ يذهب ذلك فليس بصحيح لأن من المواد ما لا ينهكها الطّبخ مهما بولغ فيه، وقد ذكرنا أن طاعة الله واجبة فيما له سبب وما لا، وعلينا أن نعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلّا لدفع ضرر عنا أو قصد منفعة لنا وذلك حفظا لسلامتنا وراحتنا وكياننا، ولئلا نصاب بأمراض جسمية وعقلية بأنفسنا. واعلم أن المراد بهذا الدّم هو السّائل في الحيوان الحي أو غيره والمتجمد في الميت لأنه نسيج أعد لنقل ما تحتاجه العضلات من الأوكسجين والمواد الغذائية والتخلص من النّقايات مثل ثاني أكسيد الكربون وحمض اليولينا وغير ذلك من المواد الضّارة بالجسم التي يحملها الدّم في أعضاء الإخراج، وبذا يكون ضرره عظيما، ويشتد ضرره إذا كان الحيوان المأخوذ منه الدّم مريضا، وإذا مات الحيوان احتبس الدّم في عروقه فتفسد حالا لأنه أسرع أجزاء الجسم
صفحة رقم 288
فسادا للطافته. واعلم أنه قد يحصل من أكل لحم الميتة والدّم ضرر عظيم لأن جميع مكروباته تتجمد في العروق المتخلطة
في اللّحم، يدلّك على هذا انه بصير كالمصل وهو دليل تسممه ويراد بهذا الدّم في هذه الآية المسفوح المبين في الآية ١٤٥ من سورة الأنعام المارة في ج ٢ لأن القاعدة أن المطلق يحمل على القيد، والذبح الشّرعي يصفى الدّم ويخرج ما هو في العروق فيتخلص اللّحم من المواد الضّارة وقدمنا المستثنيات من الميتة والدم في الآية ١٧٣ من سورة البقرة المارة فراجعها، وقد وعدنا ببيان أسباب التحريم ومعاني هذه المحرمات والمراد منها في هذه السّورة لذلك ذكرنا ما وفقنا عليه من ذلك في الدّم والميتة، أما الخنزير فينطوي تحريم أكله على حكم بالغة أيضا لأنه ينقل أمراضا خطيرة لآكله أهمها (الدويدات) المعروفة الآن (ترانكنيلا)، فإذا أكل إنسان لحم خنزير قد يصاب بحدوث هذه الآفة فتسبب له مرضا فظيعا، وأوله الإسهال والحمى مع آلام شديدة في جميع العضلات، وقد يعتريه هذا عند أقل حركة لأنه ناشيء عن وجود ديدان هذا الطّفيل في الألياف العضلية، وقد يزداد الألم في عضلات النّفس فيؤدي إلى وقف حركتها ويسبب الموت اختناقا ولم يعرف حتى الآن علاج هذا المرض ومرض السّرطان، والأطباء منهمكة فيها وعسى الله أن يطلعهم عليه أو يرشدهم لتحريم أكله طبا كما هو محرم شرعا. هذا ومع شدة مراقبة اللّحوم في البلاد الأجنبية فإن المصابين في هذا المرض كثيرون، وخاصة في البلاد المتمدنة الرّاقية بزعمهم فما بالك إذ في المدن الصّغيرة والقرى التي لا احتياط فيها. وينقل أيضا الدّودة الوحيدة المسماة (ألتبنا) التي لا ينقلها من الحيوان إلّا الخنزير فهو العائل لها دون غيره، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير ولم ينهك جيدا في الطّهي أصابه ذكل ولهذا ترى المصابين من أكلته كثيرين لأنهم اعتادوا أن يأكلوه على درجة غير كافية من النّضج لا تكفي لقتل ذلك الطّفيل، وقد يورث آكله على هذه الحالة الجذام والعياذ بالله، وقد انتشر في هذه السّنة في بيروت بسبب أكله لأن الإفرنسيين سببوا كثرته فيها وعوّدوا أكله من لم يعتده، بما حدا بالمفوض الإفرنسي فيها أن أذاع بلاغا نقلته الجرائد بلزوم أنهاك لحم الخنزير بالطبخ وعدم أكله دون ذلك. واعلم أن الأمراض
التي تنشأ عن أكله تنتقل إلى الغير فلا يقتصر ضررها على المصاب بل يكون مصدرا للعدوى. وإنما يلازم ذلك الطّفيل الخنازير خاصة لأنها متوغلة بأكل الجيف والعفونات والأقذار، فضلا عن أن أكله يورث قلة المروءة والغيرة لأنك لا تجد حيوانا يشاهد مثله حين ينزو على الأنثى إلّا حاربه غير الخنزير فإنه يعينه على الفعل إذ يسنده بظهره حالة نزوّه ويركيه على الأنثى، ولهذا نجد المدمنين على أكله لا يبالون بما يصيب أعراضهم ولا يهمهم شأن نسائهم لأن الله تعالى أزال مادة الحياة منهم، أجارنا الله وحمانا من كلّ سوء ووقانا بفضله ولطفه. قال تعالى «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أي ذبح على غير اسم الله بأن يبتدأ باسم الموثن عند الذبح، وهذا أمر تعبدي تعبدنا الله به صونا لألوهيته من أن يشرك بها غيرها. قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية ١٢١ من سورة الأنعام في ج ٢ ولا حق لنا أن نقول لماذا بعد أن صرح لنا بتحريمه لأن أفعال الله لا تعلل «وَالْمُنْخَنِقَةُ» الميتة خنقا بدل الذبح كما يفعله الهندوس وغيرهم، وبعضهم يضربون الحيوان ضربة قوية على رأسه بآلة حديدية فيخر ميتا «وَالْمَوْقُوذَةُ» المقتولة ضربا «وَالْمُتَرَدِّيَةُ» الواقعة بنفسها أو المطروحة من مكان عال أو جبل شاهق فتموت «وَالنَّطِيحَةُ» من شاة أو بقرة أو غيرهما حتى تموت، فهذه كلها حكمها حكم الميتة وفيها ما فيها، إلا أنه لما كان موتها بسبب أفردها بالذكر لئلا يتذرع أحد بأنها لا تسمى ميتة ولا تدخل في حكمها «وَما أَكَلَ السَّبُعُ» بأن أكل بعضه فمات، والسّبع يطلق على كلّ حيوان له ناب يعدو على النّاس والدّواب كالأسد والذئب والنّمر وغيره، فكذلك أيضا حكمها حكم الميتة، ثم استثنى تعالى شأنه من هذه الأحوال فقال «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» بأن أدركتموه حيّا حياة مستقرة كعين تطرف أو ذنب يتحرك أو رجل ترفس فذبحتموه قبل أن يموت فيحل لكم أكله، لأن الذكاة كما ذكرنا آنفا تصفى تلك الدّماء السّامة وتخلص اللحم من المواد الضّارة بحكمة الله تعالى، أما الحياة غير الثابتة في الحيوان مما يرى في حركاته بسبب تفلص الدّم في عروقه أو اختلاج أطرافه وجوانبه فلا تعد حياة مجيزة لأكله
لأن هذه الحركات والاختلاجات قد تكون في الحيوان بعد الذبح
بل بعد السّلخ، لذلك لا عبرة بها ولا يحل أكلها لأن جمود العين وعدم تحرك الذنب ورفس الرّجل مما يدل على عدم وجود حياة حقيقة في الحيوان تحل أكله «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» التي كانت تعظمها الجاهلية وهي أحجار منصوبة حول الكعبة بزمنهم كانوا يذبحون عليها لأصنامهم، فهذه وما هو في حكمها الآن كالذبح على الأحجار لأجل البناء خاصة الذي لا يقصد به وجه الله ولا يسمى عليه اسمه بل ذكر اسمه الشّيخ الفلاني أو الولي الفلاني فأكله حرام، أما إذا قال لله وذكر عليه اسمه تعالى ثم قال وثوابه إلى الشّيخ أو الولي أو حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فلا بأس بأكله، وهذا الأمر بعدم أكل المذبوح على النّصب تعبديّ أيضا لصيانة اسم الإله من الإشراك بغيره وتعظيم ما لم يكن معظما، وهذا يشمل جميع ما يؤكل لا يختص بشيء من الأنعام. قال تعالى «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» القداح السبعة المستوية التي يتفاءلون بها عند إقدامهم وإحجامهم، على أمر من الأمور، وقد كتبوا على أحدها (أمرني ربي) وعلى الثاني (نهاني) وعلى الثالث (منكم) وعلى الرّابع (من غيركم) وعلى الخامس (ملصق) وعلى السّادس (العقل) والسّابع مغفل لا شيء عليه، فإذا أرادوا سفرا أو زواجا أو تجارة أو اختلفوا في نسب أحد أو أمر قتل أو تحمل دية أو غير ذلك جاءوا إلى هبل أكبر أصنامهم وأعطوا مئة درهم لصاحب القداح حتى يحملها لهم فيجيلها ثم ينشرها أمامه، فإذا خرج أمرني ربي فعلوا السّفر والزواج والتجارة وشبهها، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإن خرج منكم فالولد المختلف عليه في النّسب يكون منهم، وإن خرج من غيركم فليس منهم، وإن خرج ملصق كان على حاله، وإن خرج العقل فيتحمل الدّية، وإن خرج المغفل الذي ليس عليه كتابة نشروها ثانيا، وهكذا حتى يخرج المكتوب عليه مما يريدون ويوافق ما نشروها لأجله. وقال بعضهم ان الأزلام ثلاثة فقط واحد مكتوب عليه أمرني ربي، والآخر نهاني ربي، والثالث مغفل لا شيء عليه، وعلى الأوّل عندهم المعول «ذلِكُمْ» العمل الذي اخترعتموه محرم عليكم فعله لأنه «فِسْقٌ» خارج عما أحل لكم أيها المؤمنون لأنه من مفتريات الجاهلية «الْيَوْمَ» بعد أن شرفكم الله بالإسلام وتمكن فيكم الإيمان، فقد
صفحة رقم 291
«يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» أن ترجعوا إليه ثباتا، لأنكم تركتم الكفر وعوائد الجاهلية وركنتم إلى الإسلام وانقطع أملهم منكم، إذ لو بقيتم على عوائدهم لبقي لهم أمل فيكم، لذلك يجب عليكم ترك عاداتهم كلها كما تركتم دينهم الباطل لأنها أشياء باطلة من مخترعاتهم الدّاهية «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي» أنا الله الذي أحيي وأميت وأجازي وأكافي، لا رب غيري ولا إله سواي يعبد، الحلال ما أحللته والحرام ما حرمته. والجملة نزلت بعرفة في حجة الوداع هي قوله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» حدوده وأحكامه حلاله وحرامه فرائضه وسننه «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فلم أدع شيئا يتعلق بأمر دينكم ودنياكم إلّا بينته لكم «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» من سائر الأديان فلا يقبل منكم غيره (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية ٨٦ من آل عمران المارة. (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الآية ١٩ منها أيضا، وهذه الجملة واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كسائر الآيات المتقدمة والمتأخرة في النّزول عن سورها فإنها تكون معترضة كذلك «فَمَنِ اضْطُرَّ» لتناول شيء مما حرم عليه «فِي مَخْمَصَةٍ»
شدة جوع فأكل مما حرم عليه لعدم وجود شيء حالة كونه «غَيْرَ مُتَجانِفٍ» مائل «لِإِثْمٍ» مما أكل بأن كان زيادة على سد الرّمق «فَإِنَّ اللَّهَ» الذي رخص لكم هذا «غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٣) لا يؤاخذكم على ذلك بل يغفر لكم ذنبكم رحمة يحالكم لأن الضّرورات تبيح المحظورات، أما إذا استعمل الإنسان شيئا من هذه لغير ضرورة أكل أو زيادة على سد الرّمق غير مستحل له فيفسق شرعا لخروجه عن الطّاعة لما حده الله عليه، وإذا استحل شيئا منها يكفر، وقد بيّنا ما يتعلق في هذا وما قبله من المحرمات والمستثنيات في الآية ١٧٤ من سورة البقرة المارة. روى البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا، قال فأي
آية؟ قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إلخ، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة من شهر ذي الحجة سنة
عشر من الهجرة، والنّبي واقف بعرفة، فقرأها في خطبته وقال أيها النّاس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها. وإنما قال تعالى يوم نزلت هذه الآية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) مع أنه كان ولم يزل راضيا عن دين الإسلام قبل وبعد لبلوغه إذ ذاك رتبة الكمال، إذ بلغ أقصى درجاته من أصول وفروع، وليحثنا على التمسك به وزيادة المحافظة عليه، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه. وروى أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه، ولهذا حفظ زمانها ومكانها إذ قال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قال إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، قال صدقت.
وفي رواية أن الذي بكى هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فعلى فرض صحتها لا ينافي بكاء عمر أيضا إذ يجوز أن كلاهما وقع منه ذلك، ولكن هذه الحادثة تؤيد ما جرينا عليه من أن الذي بكى هو عمر لأن السّؤال وقع من اليهودي له لا لأبي بكر.
وقد أخذ من هذه الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدّين ولم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما إذ كانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام ولا فرض ولا سنه عدا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية ٢٨٢ من البقرة إذ تأخر نزولها عن سورتها، وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث عند تفسيرها فراجعه، وذكرنا آنفا أن هذه الآية لا تعدّ مكية وإن كان نزولها بمكة لأن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا. هذا وإنما قال صلّى الله عليه وسلم أحلوا حلالها وحرموا حرامها وكلّ سور القرآن يجب أن نحل حلالها ونحرم حرامها لزيادة الاعتناء على حد قوله تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الآية ٣٦ من سورة التوبة، على أنه لا يجوز الظّلم في شيء ما في جميع الأشهر، وإنما خص الحرم بعدم الظّلم لزيادة الاعتناء ولاشتمال هذه السّورة على ثمانية عشر حكما لا توجد في غيرها، أولها للمنخنقة وآخرها (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية ١٠٦ الآتية قال
تعالى يا سيد الرّسل «يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ» من المأكولات «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» من كلّ ما تستطيبونه مما لم يرد نص بتحريمه والطّيب ما استطابته العرب أولو القوى الطّيبة والعقول السّليمة، لأن هذا الصّنف لا يستلذ إلا بالطيبات.
مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا، وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما.
«وَ» أحل لكم صيد «ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ» الكواسب للصيد كالكلب والنّمر والفهد والعقاب والصّقر والبازي والشّاهين والباشق وغيرهما أحل لكم صيدها حالة كونها «مُكَلِّبِينَ» أي مؤدبين هذه الحيوانات ومعلميها على الاصطياد بأن تمسكه لكم ولا تأكله لأنها لا ترسل إلى الصّيد ولا يجوز أن يؤكل من صيدها إلّا إذا كانت معلّمة، ولهذا قال تعالى «تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» به من العلم بأصول إرسالها والاصطياد بها، فإذا تعلمن «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» من الصّيد فهو حلال «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» حين إرسال الحيوان والطّير عند الذبح إذا أدركتموه حيا «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تخالفوا تعاليمه هذه وغيرها فإنه محاسبكم عليها «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ٤ إذا حاسب وسرعة حسابه هو أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم محاسبة رجل واحد مثل طرفة عين أحدكم. تنبه هذه الآية إلى أنه تعالى يحاسبكم إذا أقدمتم على خلاف تعاليمه، قال عدي بن حاتم وزيد الخيل بن المهلهل يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب و (باليزادة) العصا العظيمة فماذا يحل لنا؟ نزلت هذه الآية.
واعلم أن شروط التعليم في الحكم الشّرعي هي أنك إذا أوسدت الكلب أو غيره على الصّيد أي أغربته به (وأوسد بمعنى أسرع) وإذا أشليته أي دعوته شلى بمعنى رجع، وإذا زجرته عن الصّيد انزجر، وإذا أخذت الصّيد أمسكت عنه فلا تأكل منه شيئا، وأن لا ينفر منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فإذا وجد هذا التأديب في الجوارح مرارا أقلها ثلاث كانت معلمة يحل قتلها وأكل صيدها وإلّا لا. روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال إذا أرسلت كلبك المعلم ذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. وفي رواية. لا تدري أيها قتل. قال وسألته عن صيد المعراض فقال إذا أصبت بحده فكل وإذا بعرضه فقتل فاوقذ فلا تأكل لأنه يصير بحكم الميتة ضربا وهو حرام. وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر الميتة ضربا وهو حرام. وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر إذا لم يمت بها كما تقدم بالآية الثالثة المارة آنفا وإذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلّا أثر سهمك فكل فإن وقع في الماء فلا تكل لاحتمال أنه مات خنقا بسبب الغرق فيه، وأما صيد البندقية فإنه يؤكل سواء أدركه حيا فذبحه أو ميتا، وقد أفنى بهذا شيخ الإسلام المرحوم زنبلي على أفندي في فتاواه ج ٢ ص ٢٤٤ في كتاب الصّيد استدلالا بما مر.
روى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني، قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا بها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل. على أنه إذا سمي التسمية وكان مسلما فلا بأس، قال في فتاوى الفيضية: وإن تركها ناسيا يحل، والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء- كذا في الكافي ج ٢ ص ٢٣٠- هذا وإن القرآن العظيم لم يتعرض لنجاسة الكلب وأكله، وقد جاء في الحديث الصّحيح:
إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب. وهذا مما يدل على نجاسته وحرمة أكله، ولهذا بالغ المسلمون في تجنب الكلاب، لأن إرشاده صلّى الله عليه وسلم ينطوي على فوائد كثيرة من النّاحية الطّيبة، لأن الكلاب تسبب أمراضا بملامستها لأنها تحمل جراثيم كثيرة أهمها داء الكلب والعياذ بالله، وهو لا يظهر مبدئيا على الكلب فإذا عض إنسانا انتقل ذلك الدّاء العضال اليه، وإذا لا مس شخص شعر
كلب مصاب بدودة (الأكيزكوس) فيلتصق بعض بويضاتها المتناثرة من براز الكلب على شعره، فإذا تناول الشّخص طعاما بعد ذلك تكونت في الحوصلة في كبده أو في الرّئتين أو في المخ، وقد ينشأ عنه الموت، ولهذا فإن البلاد التي يكثر فيها احتكاك الإنسان بالكلب يكون هذا المرض فيها متفشيا، حتى انه بلغ عدد المصابين بذلك في ايسلندا ومراعي اوستراليا ١٥ في ١٠٠، وقد حفظ الله البلاد الإسلامية من هذا الدّاء لتجنب أهلها مباشرة الكلاب اتباعا لتحريض الشّرع الشّريف عن مقاربتها، وهذا من جملة الحكم البالغة فهنا لها ديننا الحنيف الذي أنجبت تعاليمه العظماء الّذين دان لهم الدّهر بالفضائل، وإن الأمة الإسلامية العربية لم تصل إلى العزّة والمجد وتملك الشّرق والغرب إلّا بفضل تمسكها بتعاليم دينها السّامية ولم ينحط قدرها ويتسلط عليها عدوها إلّا عند ما تقاعست عن تلك التعاليم حتى صاروا على ما هم عليه الآن من ذل وهوان واستعمار، اللهم وفقهم للعود الى دينك كما أردت، واهدهم لما فيه رشدهم. واعلم أن تحريم أكل الميتة لا يسري الى عدم الانتفاع بشعرها وجلدها وعظمها كما جرى عليه أبو حنيفة رضي الله عنه خلافا لما ذهب اليه الشّافعي رحمه الله في ذلك، وأجاز مالك الانتفاع بعظمها فقط، وإن تحريم أكل الحيوان المنصوص عليه في هذه الآية مؤيد بقوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية ١٤٦ من سورة الأنعام والآية ١١٦ من سورة النّحل في ج ٢ وآية البقرة ١٧٢ المارة، فالتنزيل المكي والمدني اقتصر على تحريم الميتة والدّم والخنزير، وما في آية المائدة هذه يدل على أن تناول غيرها من الحيوان جائز بدليل قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية ٤٠ من البقرة، وهذه الآية الكريمة وإن كانت تفيد الإطلاق إلّا انها تقيدت بما ورد في الآيات الأخر المذكورة أعلاه وهو ظاهر القرآن، فلا يحتاج لتأويل أو تفسير أو قياس، والمطلق يحمل على المقيد كما أشرنا إليه آنفا. هذا وقد أورد الفقهاء في كتبهم أحاديث صحيحة جاءت عن حضرة الرّسول بتحريم أكل كلّ ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطّير والحمير الأهلية، فعلى الورع أن يتقيد بما جاء عن حضرة الرّسول لأنه لا ينطق عن الهوى، وقد أمر الله بذلك فقال عز قوله
صفحة رقم 296
(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية ٨ من سورة الحشر المارة على شرط أن يوثق بصحة ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلم قال تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» التي سألتم عنها وقد كررها تأكيدا «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» فلا حرج بالأكل عندهم ومعهم وعلى مائدتهم مما يحل أكله عندكم وشربه، أما المجوس والمشركون ومن ليس لهم كتاب سماوي فلا يحل أكلهم للمؤمنين ولا جناح على المؤمنين أن يطعموهم من طعامهم، ولا قيمة لقول من قال أن المراد بالطعام هو الحبوب المطحونة غير المطبوخة ويحرم طعام أهل الكتاب ويعتقد نجاستهم المذكورة في الآية ٢٨ من سورة التوبة الآتية نجاسة حسية لا معنوية لمخالفة صراحة هذه الآية والإجماع وما كان عليه عمل الأصحاب، كما لا وجه لقول من قال إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الآية ١٢٢ من سورة الأنعام في ج ٢ لأنها مطلقة، وليس الأمر كذلك، لأن الأصل أنهم يسمون عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا. قل إنا إذا تيقنا أنهم يذبحون على غير اسم الله فلا يحل لنا الأكل منه، وليس علينا أن نسأل عن هذا، ولا يجوز أن نأخذ بقول لا يعتمده الكتاب ولا السّنة. على أن أبا حنيفة رحمه الله قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وعلى أي دليل استندنا. وقال الشّافعي رضي الله عنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وقال غيره تأويلا لقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي بما
يخالف قولي فاضربوا بقولي عرض الحائط «وَالْمُحْصَناتُ» العفيفات الحرائر أحل لكم أخذهن سواء كن «مِنَ الْمُؤْمِناتِ» أو من غيرهن لقوله تعالى «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أيضا «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» مهورهن «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» أي متزوجين غير زانين «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» صاحبات يفجرون بهن، وهؤلاء الصّديقات اللائي هنّ في الحقيقة عدوّات قد تنفرد الواحدة منهن لأن يبغي بها صاحب واحد تخلص اليه فقط فلا تزاني غيره، ومنهن من تزاني غيره أيضا، وهذا حرام قطعا لا فرق بالزنى بها وبالمسب لة، راجع الآية ٢٥ من سورة النّساء المارة فيما يتعلق في هذا البحث
ففيه كفاية «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» فيما أحل الله وحرم ويتخذ أشياء محرمة بزعمه أنه لا بأس بها «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» محق ثوابه وحرم من أجره إذا مات على حالته تلك دون توبة. واعلم أن قيد المؤمنات بالحرائر ليس بشرط إذ يجوز له أن يتزوج بالإماء كما أوضحناه في الآية ٣٢ من سورة النّور المارة. واعلم أن اتخاذ الأخدان للزنى بهن يدل على الاستحلال، ومن استحل شيئا مما حرم الله فهو كافر، ولهذا قال تعالى «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٥) واعلم أن لفظ المحصنات يطلق على المتزوجات كما أشرنا اليه في الآية ٢٣ من سورة النساء المارة، وعلى الحرائر كما هنا، ولفظ الأجور يطلق على المهور كما في هذه الآية وآية ٢٥ من النّساء والآية ١١ من سورة الممتحنة المارة أيضا، وقد ذكرناه أن ما ذهب اليه بعض المفسرين من كون لفظ أجورهن الواردة في الآية ٢٤ من سورة النّساء هي بدل المتعة هو الذي دعا أكثر المفسرين وحدابهم على تفسير قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) الآية ٢٤ منها بان المراد في هذا الاستمتاع هو المتعة، ولولا هذا التفسير لم يقل أحد بأن المتعة ثبتت بالقرآن ونسخت بالسنة، لأن القول الحق انها ثبتت بالسنة ونسخت بها كما بيناه هناك، فراجعه. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» إذا أردتم القيام إلى فعلها إذ لو أريد فعل الصّلاة لزم تقديم الصّلاة على الوضوء، وما قيل بأنه يوجد قراءة شاذة بعد لفظ الصّلاة (وأنتم محدثون) باطل لا أصل له ويحرم القول به، لأن القراءة لما بين الوقتين ثابتة بالتواتر، فإذا جوزنا قراءة ما لم يثبت تواتره لزم الطّعن في القرآن وهو براء من كلّ طعن، وهذا يفضي إلى القول بأن القرآن كان أكثر مما هو في المصاحف كما قيل في سورة الأحزاب التي أوردنا على القائل فيها بما هو أهله، راجع هذا البحث في آخرها ففيه كفاية. ويفهم مما يأتي بعد أن المراد من مفهومه وأنتم على غير طهارة شرعية، وأن حذف ما هو مفهوم المعنى من اختصارات القرآن وإيجازاته وكثيرا ما يحذف جملة أو كلمة أو حرف بناء على ذلك بدلالة جملة أو كلمة أو حرف عليها، وهو من أنواع البديع المحسن للكلام وجواب إذا «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
صفحة رقم 298
إِلَى الْكَعْبَيْنِ»
وبهذا يرتفع الحدث الأصغر، ثم ذكر ما به يرتفع الحدث الأكبر بقوله «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» أي اغسلوا جسدكم كله، لأن التضعيف في الفعل يدل على المبالغة. وإذا كان الحرج منفيا في هذا الدّين الحنيف وعلم الله أزلا أن الماء قد يضر استعماله أحيانا وقد لا يوجد، ويوجد مع الحاجة اليه لنفس أو حيوان أو طبخ، فرخص الله تعالى في عدم استعماله في قوله عز قوله «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» المكان المنخفض مطلقا ويطلق على المختص بقضاء الحاجة غالبا، ولذلك استعير لها كما استعير عن كلمة الجماع ب «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» فاجنبتم «فَلَمْ تَجِدُوا ماءً» كافيا لهاتين الطّهارتين أو أحدهما أو كان ولم تقدروا على استعماله لخوف أو مرض أو حاجة، فلم يجعل الله عليكم ضيقا ويلزمكم باستعماله لأداء عبادته، بل جعل لكم من فضله خلفا عنه إذا تعذر عليكم بقوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» طاهرا نقيا، راجع الآية ٤٣ من سورة النّساء في بحث التيمم ومعنى الصّعيد.
مطلب في أحكام التيمم وكيفيته وجواز الوضوء الواحد لخمس صلوات وإن كلمة إنا لا تفيد العموم وفروض الوضوء وكيفيته:
ثم بين كيفية التيمم بقوله «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» أي التراب المعبر عنه بالصعيد الذي معناه وجه الأرض بدلا من الوضوء والغسل وإنما أباح لكم هذا لأنه «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» في الطهارة كما لم يجعل عليكم حرجا في غيرها «وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» عند ما تقومون لعبادته بالماء طهارة حقيقة وعند فقده بالتراب طهارة حكمية تعبّدكم بها «وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» برخصه كما أتمها بعزائمه «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (٦) نعمه وتعلمون أنه لم يكلفكم بشيء إلّا أثابكم عليه قولا أو فعلا هذا واعلم أن لا محل للقول بان ظاهر الآية يدل على لزوم الوضوء لكل صلاة لما ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد، وجاء في الصحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. على أنه يسن
أن يجدد الوضوء لكل صلاة، أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات. وما قبل إن النّبي وأصحابه كانوا يتوضئون لكل صلاة لا دليل عليه، إذ لو كان المراد وجوب الوضوء لكل صلاة لما جمع حضرة الرّسول بين أربع صلوات، وفي رواية خمس صلوات بوضوء واحد، ولما قال في هذا الحديث من توضأ على طهر، ولأن كلمة إذا لا تفيد العموم، إذ لو قال رجل لامرأته إذا دخلت الدّار فأنت طالق فدخلت طلقت لأول مرة فقط، فإذا دخلت ثانيا وثالثا لا يقع عليه شيء، فدل هذا على أن كلمة إذا لا تفيد العموم. هذا وإن فروض الوضوء المتفق عليها أربعة الأوّل غسل الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن طولا، وما بين شحمتي الأذنين عرضا وإذا كان له لحية خفيفة وجب إيصال الماء إلى أصول الشّعر، وإذا كانت كثيفة بأن لا ترى بشرة ما تحتها كالخفيفة كفى إمرار الماء على ظاهرها، الثاني غسل اليدين إلى المرفقين والغاية داخلة في المغيا، الثالث مسح ربع الرّأس لأنه أقل حد الإطلاق على الكل يؤيده فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم بالحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة، ورأى الشافعي رحمه الله بكفاية مسح شعرة واحدة لأن الباء للتبعيض فيصدق على الشّعرة وهي بعض شعر الرّأس لا بعض الرّأس، والأوّل أولى لسنية مسح جميعه عند الكل، الرابع غسل الرّجلين إلى الكعبين فالكعبان داخلان، كدخول المرفقين باليدين، لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية، لأن المرفق والكعب من جنس اليد والرّجل، أما إذا كان من غير جنسه فلا يدخل كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية ١٨٠ من البقرة لأن اللّيل ليس من جنس النّهار راجع تفسير هذه الآية وما ذكرناه مؤيد بفعل الرّسول وزاد الشّافعي استنباطا من مفهوم هذه الآية المفسرة فرضين آخرين الأوّل ويكون الخامس النّية عند غسل الوجه لأن الوضوء مأمور به وكلّ مأمور به يجب أن يكون منويا، مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات، والثاني وهو السّادس الترتيب بحسب نسق الآية، وقال أبو حنيفة إن الله لم يوجب النّيّة في هذه الآية وإيجابها زيادة على النص، والزيادة على النّص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد أو بالقياس أو بالحديث
صفحة رقم 300
غير جائز، وكذلك الترتيب لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا بلا خلاف عند اللّغويين كافة، ولم تأت الآية بالفاء أو ثم المفيدين لذلك، أما حديث النّيات فيفيد كمال الأعمال لا نفسها، ولا الفاء في قوله فاغسلوا ملتصقة بذكر الوجه واقعة في جواب إذا ليس إلا، فظهر من هذا أن فروض الوضوء أربعة لا غير، وما قيل أن الوضوء كان واجبا لكل صلاة ثم نسخ قيد واه لا حقيقة له، وقد قال صلّى الله عليه وسلم المائدة في آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها، وحديث سنيّة الوضوء على الوضوء لم يقصد منه إلّا زيادة الأجر، وان ما قال الإمامية أن الرّجلين ممسوحة لا مغسولة استنادا لما جاء عن ابن عباس أنه قال الوضوء غسلتان ومسحتان ووافقه عليه قتادة وقول أنس نزل القرآن بالمسح والسّنة بالغسل، وقول عكرمة ليس في الرّجلين غسل انما نزل فيها المسح، وقول الشّعبي ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، وقول
ذوو الظّاهري يجمع بين الغسل والمسح، وقول الحسن البصري يخير المكلف بين الغسل والمسح فهذا كله أخذ على ظاهر القرآن من قراءة الجر غير المتواترة، أما على قراءة النّصب المتواترة والتي عليها المصاحف المجمع عليها فلا يتجه. ولهذا قال جمهور العلماء من الأصحاب الكرام والتابعين والأعلام والأئمة الأربعة بكونها مغسولة بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلم والتحديد الوارد في الآية، لأنه جاء في المغسول لا الممسوح، ولهذا لم يجعل الله تعالى حدا لمسح الرّأس كما جعله في الأيدي والأرجل، فلو كانت الأرجل ممسوحة لما قال الى الكعبين، وهذا كان في الغسل لا يقابله قول ما، وأما من قال ان الجر في (وَأَرْجُلَكُمْ) من عطف المجاورة مثله في (هذا حجر ضب ضرب) بجر ضرب على أنه نعت لحجر لا لضب فليس بجيد، لأن الجر على المجاورة انما يكون لضرورة أو عند حصول الأمن من الالتباس كما في المثل على حد قولهم خرق الثوب المسمار برفع الثوب ونصب المسمار لمعلومية عدم الالتباس، وفي الآية ليس كذلك، ولم تنطق به العرب مع حرف العطف، فظهر أن الغسل ثابت بنص القرآن المفسر بفعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما أن عثمان دعا بإناء فأفرع على كعبه ثلاث مرات
فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فتمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاثا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين، ثم قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلّى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ورويا عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري نحوه ببعض زيادات. وأخرج أبو داود عن عبد خير عن علي كرم الله وجهه بزيادة: واستنشق ثلاثا فتمضمض ونثر من كف واحد وزيادة، فمن سره أن يعلم وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو هذا وأخرج أبو زيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثله بزيادة فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم على اللّف والنّشر المرتب. وفي رواية فقد تعدى وظلم.
وإنما عد مسيئا أو متعديا لزيارته على الحد الأعظم من فعل الرّسول، وظالما لأنه نقص عن حد الكمال، فحرم نفسه من الأجر المرتب عليه. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصّلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته ويل للأعقاب من النّار مرتين أو ثلاثا. ورويا عن أبي هريرة نحوه. وأخرج مسلم عن جابر قال أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النّبي صلّى الله عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك، قال فرجع فتوضأ ثم صلّى وأخرج أبو داود عن خالد عن بعض أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يصلي وفي قدميه لمعة قدر الدّرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصّلاة، فهذا كله مأثور عنه صلّى الله عليه وسلم وكله يؤيد أن الرّجلين مغسولة لا ممسوحة، وأن غسلها فرض وقد ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشى فأدركت رسول الله قائما يحدث النّاس فأدركت من قوله ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلّا وجبت له الجنّة. فقلت ما أجود هذا، قال قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت، فإذا عمر قال رأيتك جئت آنفا، قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيهما شاء. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من كلّ خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كلّ خطيئة كان بطشتهما يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كلّ خطيئة مشتهما رجلاه مع الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب. ويراد بهذه الذنوب والله أعلم التي لم يتعلق بها حق الغير، على أن الله تعالى قادر على عفو الجميع وإرضاء النّاس من فضله وكرمه وجوده الواسع. ورويا عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال إن من أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. وفي رواية أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء. وفي رواية لمسلم قال سمعت خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. ورويا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ الصّلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء يخلّل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه الماء ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده. هذا وأما ما يتعلق بالتيمم فقد تقدم بيانه في الآية ٤٣ من سورة النّساء فراجعها. ومما يدلّ على أن المراد بالملامسة في هذه الآية الجماع لا اللّمس باليد مما ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ويصلي، فلو كان المراد منها مطلق اللّمس لما فعل ولتوضأ عند وقوع مثل ذلك منه، ولهذا قال به أبو حنيفة ولكن الشّافعي رحمه الله قال المراد اللّمس باليد وكأنه لم يثبت لديه ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل حضرة الرّسول وكان أقدم منه، لأنه ولد يوم وفاته يوم الثلاثاء سنة ١٥٠ من الهجرة، ولهذا ترى العلماء يعطلون قراءة الدّرس فيه احتراما لوفاة الأوّل وولادة الثاني.
مطلب تذكير رسول الله ببعض النّعم التي أنعم الله بها عليه بخلاصه من الحوادث والتآمر، وقصة موسى عليه السّلام مع الجبارين:
قال تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» أيها المؤمنون بالإيمان
والعافية والرّزق وثواب الله على أعمالكم الحسنة «وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» حين أخذ العهد عليكم في الأزل، وهو اعترافكم بالربوبية حين خاطبكم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) كما مر في الآية ١٧٢ من سورة الأعراف ج ١ أي تذكروا هذا أيضا فذكره يحدو بكم على القيام بعبادته، ولذلك نبه جل شأنه عليه بقوله «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» يحثهم على الوفاء به لأنهم التزموا بذلك العهد، قال بعض المفسرين أن المراد بالميثاق هنا المبايعة لحضرة الرّسول على السمع والطّاعة، وإنما اضافة لحضرته مع صدوره من نبيه لكون المرجع إليه ولقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) الآية ١١ من سورة الفتح المارة والأوّل أولى لما في الثاني من عدم الانطباق على ظاهر الآية إلّا بتأويل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها النّاس بالمحافظة على هذا الميثاق لأنكم مطالبون به ومحاسبون عليه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (٧) لا يخفى عليه شيء يعلم المحافظ على عهده بقلبه ولسانه والنّاكث فيهما والمعترف بلسانه دون قلبه وبالعكس. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ» في كلّ ما يلزم القيام به من العمل بطاعته والاجتناب عن نهيه قولا وفعلا حالة كونكم «شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» العدل من غير محاباة لأحد بود أو قرابة ومن غير حيف من بغض أو عداوة «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» يحملنكم ويدعونكم «شَنَآنُ» بغض أو عداوة «قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا» في أحكامكم وشهاداتكم، وقد عدّي فعل يجرمنّكم بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى فعل يتعدى فكأنه قال لا يحملنكم بغض المشركين ومنهم الخطيم شريح بن شرحبيل المار ذكره في الآية الثانية النّاهية على عدم ترك العدل والتعدي عليه بارتكاب ما لا يحل بل «اعْدِلُوا» بشأنه وشأن كلّ أحد سواء كان قريبا أو بعيدا، صديقا أو عدوا، وضيعا أو رفيعا، شريفا أو سخيفا، غنيا أو فقيرا لأن إجراء العدل مع الجميع «هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» الموجبة لقرب الله تعالى الموصلة لجنته «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أقوالكم وأفعالكم وحركاتكم وسكناتكم سركم وجهركم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (٨) من العدل والحيف في الأحكام والشّهادة والجد والهزل بأقوالكم وأفعالكم وإشاراتكم ورمزكم ونياتكم، وهو
صفحة رقم 304