آيات من القرآن الكريم

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ

(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ... (١٤)
* * *
في الآيات السابقة بَيَّنً الله الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل، ونقضوه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذا النص الكريم يذكر سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذ على قوم عيسى عليه السلام، وهو يشمل ما جاء به ذلك النبي الكريم، والرسول الأمين - ﷺ - من بيان وحدانية الله تعالى، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له صاحبة، ومن إحياء للتوراة الحقيقية ووصاياها وتكليفاتها، وقد صدَّق الصادق منها.
ولكن النصارى نسوا حظا مما ذكروا، أي نسوا قدرا كبيرا هو لب الديانة المسيحية، وهو التوحيد، وكثير من وصايا عيسى عليه السلام، وما دعاهم إليه من تسامح وحب للسلام.
وسبب نسيان حظ أي نصيب كبير مما ذكروا به هو اضطهاد النصارى اضطهادا شديدا في عهد الرومان، حتى ضاعت كتبهم، ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا، ثم ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها، ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات

صفحة رقم 2084

المختلفة، بعد أن دخل قسطنطين إمبراطور الرومان فيها، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انعقد في سنة ٣٢٥ ميلادية، وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد.
وهنا نكتة بيانية أساسها بيان السبب في أن الله تعالى عبر عنهم بقوله تعالت كلماته: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) ولم يقل النصارى للإشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية التي هي الدين الذي دعا إليه المسيح عليه السلام قول يقولونه بأفواههم ولا يتبعونه بقلوبهم؛ إذ هجروا لب تعاليم المسيح، وهو الوحدانية.
(فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) " الفاء " هنا للسببية أي أنهم بسبب نسيان كتبهم، وذهاب مصدر دينهم اختلط الباطل بالحق فيما يعتقدون فتفرقوا شيعا، وكانت بينهم العداوة، فمن قائل إن المسيح إله وهو ابن الله، ومنهم من قال إنها بنوة نعمة، ومنهم القائلون بالحق وهم الذين أنكروا ألوهيته كأريوس وأتباعه، ثم الذين قالوا بالألوهية اختلفوا أَوَلِدَتْ مريم اللاهوت من الناسوت، أم ولدت الإنسان فقط، ثم اختلفوا في الإرادة التي تكون من المسيح أتكون منهما أو من أحدهما، وكل فرقة تكفر الأخرى وتعاديها وتضطهدها وترميها بالكفر، حتى إن الملكانيين كانوا يذيقون اليعقوبيين سوء العذاب، ولم ينقذهم من أيديهم إلا الحكم الإسلامي العادل الرشيد، وكانت العداوة في العصور الأخيرة بين الكاثوليك والإنجيليين، وأريقت فيها الدماء، وإن تلك العداوة ستستمر إلى يوم القيامة. وهنا بحث بياني وهو التعبير بـ أغرينا، فإن الإغراء من الغراء وهو ما يلصق به، والمعنى كان الالتصاق والارتباط الذي يربطهم عداوة ظاهرة بالجدل أو المحاربة، وبالكراهية المستكنة بالنفس وهي البغضاء، أي البغض الشديد الذي يسكن القلب، ولا علاج له، وقد بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى عاقبتهم بقوله:
(وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُم اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنهم يستمرون في ريبهم يترددون، وفي عداواتهم يلجون، حتى يوم القيامة، وفي هذا يخبرهم الله تعالى الخبر العظيم بنتيجة ما كانوا يعملون ويصنعون من غير تفكير ولا تدبر، وسوف

صفحة رقم 2085

هنا لتأكيد الخبر، وبيان أنه وإن تأخر آت لَا محالة اللهم ألهمنا قول الحق والنطق به، وقنا شر أهل العداوة والبغضاء من عبيدك، إنك سميع الدعاء.
* * *
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
* * *
بيَّن الله سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل، وقد وثقه بشهادته سبحانه وتعالى، وبعث اثني عشر نقيبا عليهم يمثلون أسباطهم، ومع ذلك نقضوه، فطردهم الله من رحمته، فقست قلوبهم إذ مردت على العصيان، وأطفأت النور الذي جاء إليهم من الله تعالى، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأهملوا العمل بالباقي وجعلوا شرع الله تعالى نسيا منسيا، وامتلأت نفوسهم بالخيانة، وابتلى الله تعالى محمدا - ﷺ - بذريتهم التي ورثت عنهم أخلاقهم ومروقهم عن الحق، مروق السهم من الرمية، ثم كان من الذين نسبوا أنفسهم للنصرانية بعض ما كان من اليهود، فنسوا حظا من الكتاب الذي جاء به عيسى عليه السلام إليهم، وأطفأوا نور الحق الذي جاء به في قلوبهم، وتفرقوا فيما

صفحة رقم 2086

بينهم، وأغريت بسبب هذا التفريق العداوة والبغضاء بينهم، بعد هذا بين لهذين الفريقين وغيرهما الطريقة المثلى، والصراط المستقيم فقال سبحانه:

صفحة رقم 2087
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية