آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ

قال ابن عباس: يعني: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم ﴿قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من الدين والمنهاج (١).
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾، مضى الكلام في نظيره في سورة البقرة (٢).
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية، قال النحويون: قوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أمر من الله، تأويله: احفظوا أنفسكم عن ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. قاله الفراء (٣) وابن الأنباري (٤).
ونحو ذلك قال الزجاج؛ لأنه قال: إذا قلت: عليك زيدًا، فتأويله الزم زيدًا، و ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ معناه: الزموا أنفسكم فإنما ألزمكم الله أمرها (٥)، وهذا موافق لما قال ابن عباس في تفسيره؛ لأنه قال في قوله

(١) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٤٦٢، "تفسير الوسيط" ٢/ ٢٣٦، "تفسير البغوي" ٣/ ١٠٩، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٢٥.
(٢) الظاهر أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠].
(٣) في "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٢.
(٤) أبو بكر، وقد وهم محقق "الوسيط" ٢/ ٢٣٧ فنسب هذا "القول للبيان في غريب إعراب القرآن" ١/ ٣٠٧، وهذا الكتاب لأبي البركات بن الأنباري المتوفى سنة ٥٧٧ هـ وهو متأخر عن المؤلف بقرن تقريبًا.
وكلام ابن الأنباري أبي بكر هنا بمعنى ما عند أبي بركات في البيان، ولم أجده في الزاجر لأبي بكر، والذي يعتمد عليه المؤلف كثيراً.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣.

صفحة رقم 557

﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾: يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيتي (١)، والعرب تأمر من الصفات بعليك وعندك ودونك، فتعديها إلى المفعول، وتقيمها مقام الفعل، فتنصب بها على الإغراء (٢)، تقول: عليك زيدًا (٣)، كأنه قيل: خذ زيدًا فقد عداك وأشرف عليك، وعندك زيدًا، أي حضرك فخذه، ودونك، أي: قرب منك.
فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها، وقد تقيم العرب غير هذه الأحرف مقام الفعل، ولكن لا تعديه إلى مفعول، وذلك نحو قولهم: إليك عني (٤)، أي تأخر، كما يقولون، وراءك وراءك، بهذا المعنى.
قالوا: لا يجوز أن يأمر بهذه الظروف إلا المخاطب، لو قلت عليك زيدًا، لم يحسن، وإنما كان كذلك لأن المخاطب لا يحتاج في الأمر بالفعل إلى أكثر من حروف ذلك الفعل الذي يأمره به نحو: قم واذهب، وفي الأمر للغائب يحتاج إلى إدخال اللام نحو: ليقم فلان، فكرهوا أن يقيموا هذه الظروف مقام الفعل واللام، فتكون نائبة عن شيئين، وفي المخاطبة تكون نائبة عن شيء واحد وهو الفعل وحده، وقد حكى عن العرب سماعًا: عليه رجلاً، ليس إغراءً للغائب، وهو شاذ لا يقاس عليه، وأجاز الكسائي وحده الإغراء بالظروف كلها.
قال الفراء: زعم الكسائي أنه سمع: بينكما البعيرَ فخذاه، فأجاز ذلك

(١) لم أقف عليه.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٧.
(٣) انظر: كتاب سيبويه ١/ ١٣٨.
(٤) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٤.

صفحة رقم 558

في كل الصفات، وسمع العرب تقول: كما أنت زيدًا، ومكانك زيدًا، قال الفراء: وسمعت بعض بني سليم يقول: مكانكني، يريد انتظرني في مكانك (١)، ولا يجوز تقديم ما نصبته حروف الإغراء عليها نحو: زيدًا عليك، لأنها طروف أقيمت مقام الأفعال وليست أفعالاً، فلا تقوى على العمل فيما قبلها (٢).
وأما سبب نزول الآية: فروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - لما قبل من أهل الكتاب الجزية وأبى من العرب إلا الإسلام أو السيف، عيَّر المؤمنين منافقوا مكة قبول رسول الله - ﷺ - الجزية من بعض دون بعض، فنزلت هذه الآية (٣)، يقول: لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على هدى، وقال سعيد بن جبير: نزلت في أهل الكتاب، يعني: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، قال الزجاج: الأجود أن يكون رفعًا على جهة الخبر، والمعنى: ليس يضركم من ضل، قال: ويجوز أن يكون موضع ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ جزمًا على الجواب لقوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ لأنه أمر، ويكون الأصل: لا يضرركم إلا أن الراء الثانية أدغمت فيها الأولى وضمت لالتقاء الساكنين (٥)، وشبه الفراء هذا بقوله

(١) "معاني القرآن" ١/ ٣٢٣.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٢٣.
(٣) ذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص ٢١٤، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٣، و"تنوير المقباس" - الذي هو من رواية الكلبي ورواياته منكرة بهامش المصحف ص ١٢٥.
(٤) أخرجه الطبري ٧/ ٩٤، و"معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٤.

صفحة رقم 559

تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ (لَا تَخَفُ) ولا تخافُ [طه: ٧٧] جائزان (١).
ويقال: هل تدل هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قيل: في هذا وجوه:
أحدها: وهو الذي عليه أكثر الناس أن الآية لا تدل على ذلك، دل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذًا بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمعقول بالآيات في ذلك (٢)، وخطب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ وتضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب" (٣).
الوجه الثاني في تأويل الآية: ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا: قوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ يكون هذا في آخر الزمان، قال ابن مسعود وقرئت عليه هذه الآية: ليس هذا بزمانها ما

(١) "معاني القرآن وإعرابه" ١/ ٣٢٣، ولا تخف ولا تخافُ، قراءتان سبعيتان.
انظر: "حجة القراءات" ص ٤٥٨، ٤٥٩، و"النشر" ٢/ ٣٢١.
(٢) "تفسير الطبري" ٧/ ٩٩، "معاني القرآن وإعرابه" للنحاس ٢/ ٣٧٣، و"بحر العلوم" ١/ ٤٦٣.
(٣) أخرجه الترمذي (٣٠٥٧) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وقال: حديث حسن صحيح، والطبري ٧/ ٩٨ من طرق، قال ابن كثير ٢/ ١٢٣. وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم، من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة.. متصلًا مرفوعًا ومنهم من رواه موقوفًا على الصديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولًا في مسند الصديق رضي الله عنه".

صفحة رقم 560

دامت قلوبكم واحدة، ولم تُلبَسوا شِيَعًا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شِيعًا، فامرؤٌ ونفسُه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية قال: ومن الآيات آيٌ وقع تأويلهن في آخر الزمان (١).
وروي عن ابن عمر أنه قال: "هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم" (٢)، ويؤكد هذا الوجه: ما روي أن أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله - ﷺ - عن هذه الآية فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم (٣).
الوجه الثالث في تأويل الآية: ما ذهب إليه عبد الله بن المبارك، فقال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين جميعًا، وأغراهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ يعني: عليكم أهل دينكم ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ﴾ من الكفار، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] يعني:

(١) أخرجه الطبري ٧/ ٩٦، وذكره ابن كثير ٢/ ١٢٤، وعزاه إخراجه إلى أبي جعفر الرازي، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٩٩ إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب.
(٢) أخرجه الطبري ٧/ ٩٦ وأخذه عنه ابن كثير ٢/ ١٢٤، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٥٩٩ إلى ابن مردويه أيضًا.
(٣) أخرجه الترمذي (٣٠٥٨) كتاب: التفسير، باب: من سورة المائدة وقال حسن غريب، وأبو داود (٤٣٤١)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، والطبري ٧/ ٩٧، البغوي في "شرح السنة" ١٤/ ٣٤٧.

صفحة رقم 561

أهل دينكم، وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] بهذا المعنى (١)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء عنه، قال في قوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾: يريد يعِظُ بعضكم بعضًا، وينهى بعضكم بعضًا، ويعلّم بعضكم بعضًا ما يقربه إلى الله ويبعده من الشيطان، و ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ﴾ من غيركم، يريد من المشركين وأهل الكتاب، والمنافقين (٢).
الوجه الرابع: أن الآية نازلة في أهل الأهواء، لأنه لا ينفعهم الوعظ ولا يتركون هواهم بالأمر بالمعروف، فإذا رأيتهم أو كنت فيهم فعليك نفسك وذرهم وما اختاروه لأنفسهم، فلن يضرك ضلالهم. وهذا الوجه يروى عن صفوان بن مُحْرِز (٣)، ونحو ذلك قال الضحاك (٤).
والذي ذكرنا من سبب النزول يدل على أن الآية نازلة فيمن لا يؤمر بالمعروف ولا يُنْهى عن المنكر، وهم المنافقون واليهود والنصارى، فأما المسلمون فليسوا من هذا في شيء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فيما بينهم.
قال أبو عبيد: والذي أذن الله في إقراره والإمساك عن تغييره بقوله: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ إنما هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم أهل ملل يدينون بها، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإِسلام فلا يدخل في هذه الآية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

(١) "تفسير القرطبي" ٦/ ٣٤٤.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) هو صفوان بن مُحْرز المازني البصري، العابد، أحد الأعلام، أخذ عن الصحابة وروى عنه جماعة. كان واعظًا قانتًا، توفي سنة ١٧٤ هـ انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٨٦، "تقريب التهذيب" ص ٢٧٧ (٢٩٤١).
(٤) لم أقف عليه، "تفسير الطبري" ٧/ ٩٧١، "تفسير البغوي" ٣/ ١١٠.

صفحة رقم 562
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية