
التفويض إلى الله تعالى بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
الإعراب:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: أَنْفُسَكُمْ: منصوب على الإغراء، أي: احفظوا أنفسكم، كما تقول:
عليك زيدا. لا يَضُرُّكُمْ: في موضع الجزم، لأنه جواب: عَلَيْكُمْ. وكان ينبغي أن يفتح آخره، إلا أنه أتى به مضموما تبعا لضم ما قبله.
المفردات اللغوية:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي احفظوها وقوموا بصلاحها فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها.
سبب النزول:
ذكر الواحدي عن ابن عباس: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل هجر وعليهم منذر بن ساوى، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى، والصابئين والمجوس، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام، وكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية، فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية، فقال منافقو العرب: عجبا من محمد يزعم أن الله يبعثه

ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما ردّ على مشركي العرب، فأنزل الله تعالى:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
يعني من ضل من أهل الكتاب «١».
هذه رواية، وقيل: المراد غير أهل الكتاب،
لما روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، يوشك الله عزّ وجلّ أن يعمهم بعقابه»
قال: وسمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس: إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان.
وقد روى هذا الحديث أيضا أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحة وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصّديق، وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره.
ولما روى الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قلت: قول الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله، لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما: الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون كعملكم» وزيد في رواية: «قيل: يا رسول الله،

أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم»
ثم قال الترمذي:
هذا حديث حسن غريب صحيح.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أنواع التكاليف والشرائع والأحكام، ثم قال: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ثم نعى على المشركين تقليدهم الآباء: قالُوا: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وندّد بإعراضهم عن الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، وبقوا مصرين على جهلهم مقيمين على ضلالهم، لما بيّن كل ذلك قال الله للمؤمنين: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالهم، بل أصلحوا أنفسكم، ونفذوا تكاليف الله، وأطيعوا أوامره ونواهيه.
والخلاصة: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب التحذير منه.
التفسير والبيان:
يأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ويخبرهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا.
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، احفظوا أنفسكم من المعاصي، وتقربوا إلى ربكم بخالص الأعمال، وخلّصوها من العقاب، ولا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم إلى الحق، وإلى الله رجوعكم، فيخبركم بأعمالكم، ويجازي كل عامل بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا، بل توجب الآية أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب

العاصي، فهي تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية مثل قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر ٧٤/ ٣٨] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
ظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤] لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين، كما تقدم في سبب النزول.
وعلى كل حال يمكن فهم الآية بغير الرجوع إلى السنة، فهي تطالب المؤمن أولا ببناء الذات والتسلح بفضائل الأعمال والاعتماد على النفس في كل أنواع القربات، واجتناب المعاصي والسيئات.
وذلك لأن هناك آيات كثيرة تطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعارض بين الموضوعين، فهذه الآية في تكوين الشخصية والذات المسلمة، وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النطاق الاجتماعي فهي توجب التناصح والتعاون على الخير وإقرار الفضيلة، ومقاومة الشر ومحاربة الرذيلة والمنكر.
قال سعيد بن المسيب: معنى الآية: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما إن كانت الآية نازلة في حق غير المسلمين فلا إشكال والمعنى: عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعين متى وجد رجاء القبول، أو رد الظالم ولو بعنف، فإن خاف الآمر ضررا في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، أو الوقوع في التهلكة بأن يعلم يقينا أو يظن ظنا قويا بعدم جدوى نصحه إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، سقطت هذه الفريضة.