آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ
ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥ

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بيّن الرسالة والنذارة. ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: ٢٣] الآية. وكقوله عزّ وجلّ وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سبأ: ٥١]. إلى آخر السورة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٥]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يحتمل معنيين: أحدهما- أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: ٧٥]، وكقوله جلت عظمته وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: ٢٨]، والثاني- أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: ٩٨]. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم. بل كان قد انعقد سببه عليهم. ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى، إخبارا عن شعيب عليه السلام، أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [الأعراف: ٨٨- ٨٩]. وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم. وقال قتادة: إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى عذاب الله. وقوله عزّ وجلّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٦]
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه

صفحة رقم 412

بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم. وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا. قال ابن جرير: حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية.
حدثنا خالد الحذّاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصريّ وعكرمة في أصح الروايتين عنه. والله أعلم.
انتهى كلام ابن كثير.

فصل:


وممن رجح الوجه الأول، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازا، بذكر المسبّب وإرادة السبب. أو بالاستعارة، العلامة أبو السعود حيث قال: والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعا. فإن قوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى إلخ، ردّ لكلامهم واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، أي كيف يتذكرون؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم؟ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر. وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها. حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبيّن لهم مناهج الحق، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صمّ الجبال ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ عن ذلك الرسول وهو هو، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولي وَقالُوا في حقه مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قالوا تارة: يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف. وأخرى مجنون، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا. فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف، وإذا شبع طغى. وقوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ جواب من جهته تعالى عن قولهم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ بطريق الالتفات، لمزيد التوبيخ والتهديد. وما بينهما اعتراض. ألى إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا. إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتوّ والإصرار على الكفر. وتنسون هذه الحالة. وفائدة التقييد بقوله:
قَلِيلًا الدلالة على زيادة خبثهم. لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف، كانوا بعده

صفحة رقم 413

أسرع إلى العود. وصيغة الفاعل في الفعلين، للدلالة على تحققهما لا محالة. ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى، بدعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتوّ والعناد. انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة.

فصل:


وأما الوجه الثالث في الآية، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا جعفر بن مسافر. حدثنا يحيي بن حسان. حدثنا ابن مهيعة. حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ قال: كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب جدّا. بل منكر. انتهى.
أى لأنه لم يرو مرفوعا ولا موقوفا على ابن عباس، ترجمان القرآن. أو غيره من الصحب. إلا أن عدم كونه مأثورا لا ينافي احتمال لفظ الآية له. وصدقها عليه. لا سيما، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ مما هو وعد بظهوره عليهم. وكان ذلك يوم الفتح. وحينئذ، فمعنى قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ أي ما ينزل بهم يومئذ، برفع القتل والأسر عنهم. ومعنى عائِدُونَ أي إلى لقاء الله ومجازاته.

فصل:


يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب، عليهم الرضوان، اهتماما في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها. حتى كان ابن مسعود مصرّا على وجه، وعليّ وابن عباس وحذيفة على وجه آخر. على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية. وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار. وسبب الاختلاف هو إيجار الأسلوب الكريم، وإيثاره من الألفاظ أرقها، وأوجزها. مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازا أخرى. هذا أولا. وثانيا، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات، كان ذلك مما يقرب بينهما ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما. لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة.
فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده. وأما من فتح للتدبر بابا ومهد للنظر مجالا، ورأى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها، وأنها أعم وأشمل، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه. فذاك وسّع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، ورقاه من

صفحة رقم 414
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية