
ربّ السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما، وهو الواحد القهّار، يحيي الأموات ويميت الأحياء، فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شيء، ومالك الناس عند نزول القرآن ومالك من تقدّم منهم ومالك من سيوجد إلى يوم القيامة، فما على الناس إلا اتّقاء تكذيب النّبي محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لئلا ينزل بهم العذاب.
ثانيا- أظهر اللَّه تعالى حقيقة اعتقاد المشركين مبيّنا أنهم ليسوا في الواقع على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم: إن اللَّه خالقهم، وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم ولا حجة ولا برهان، فهم في شكّ بيّن، وإن توهّموا أنهم مؤمنون، فهم يلعبون في دينهم على وفق أهوائهم من غير حجّة.
تهديد المشركين بالعذاب
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
الإعراب:
إِنَّا مُؤْمِنُونَ الجملة حالية.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الذِّكْرى: مبتدأ، وأَنَّى لَهُمُ: خبره.
يَوْمَ نَبْطِشُ... يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه: إما فعل مقدر، يدلّ عليه مُنْتَقِمُونَ أي ننتقم يوم نبطش، ولا يجوز تعلّقه بقوله: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لأن ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبلها، أو يكون العامل فيه إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ...

المفردات اللغوية:
فَارْتَقِبْ انتظر. بِدُخانٍ مُبِينٍ بيّن واضح، والمراد من الدّخان: يوم الشدّة والمجاعة في الماضي، فإن الجائع يرى ما فوقه إلى السّماء ظلاما من شدّة الجوع، وضعف البصر، كهيئة الدّخان، وفي المستقبل يمكن تفسير الدّخان بالغبار الذّري الذي يهدّد البشرية بالموت ويعقبه ظلام.
يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم من كلّ جانب، وهو صفة للدّخان. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يقولون: هذا عذاب مؤلم، ويقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ مصدّقون بك وبنبيّك، وهذا وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى؟ أي من أين لهم، وكيف يتذكرون في هذه الحال؟ المعنى:
لا ينفعهم الإيمان عند نزول العذاب. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بيّن الرّسالة، بيّن لهم بالآيات والمعجزات ما يوجب الإيمان والتّذكّر. مُعَلَّمٌ أي يعلمه غيره القرآن، قالوا: يعلمه غلام رومي لبعض ثقيف.
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ نكشف العذاب بدعاء النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنه دعا، فرفع القحط.
قَلِيلًا كشفا قليلا أو زمنا قليلا، وهو ما بقي من أعمارهم. إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، فعادوا إليه بعد كشف العذاب.
نَبْطِشُ نأخذ بقوة وشدة، والبطش: الأخذ الشديد، والبأس. الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة أو يوم بدر. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ننتقم منهم بسبب كفرهم.
سبب النّزول:
نزول الآية (١٠) :
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسنيّ يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرّجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدّخان من الجهد، فأنزل اللَّه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللَّه، استسق اللَّه لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.

نزول الآيتين (١٥- ١٦) :
إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ... أخرج البخاري في تتمة الرواية السابقة:
فلما أصابتهم الرّفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل اللَّه: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فانتقم اللَّه منهم يوم بدر.
المناسبة:
بعد أن وصف اللَّه تعالى المشركين بأنهم في شكّ من التّوحيد والبعث وقدرة اللَّه، ذكر تعالى أوصاف يوم العذاب الذي سيحلّ بهم في الدّنيا والآخرة، تهديدا لهم، وتسلية لرسوله، وأنه لا يؤمل اتّعاظهم بالرغم من تهديدهم وإظهار المعجزات والبيّنات على يد رسول اللَّه، ووصفهم له بأنه معلّم مجنون.
التفسير والبيان:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ هذا توعّد من اللَّه وتهديد للمشركين، يقول اللَّه فيه لنبيّه: فانتظر اليوم الذي تأتي فيه السماء بهيئة كالدّخان الواضح المنتشر في الفضاء، وهذا الدّخان بالنسبة للماضي هو ما أصاب قريشا من الجدب والقحط مدة سبع سنين، بدعاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى كان الرجل يرى من شدّة الجوع ما بين السماء والأرض دخانا، لضعف البصر وزيغانه، كما تقدّم في بيان سبب النّزول عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، أو هو غبار الحرب يوم بدر.
وأما بالنسبة للمستقبل فهو أمارة وعلامة من أشراط الساعة، يمكث في الأرض أربعين يوما، حيث يظهر في الفضاء غبار ذري أو غيره كالدّخان، يجعل الجو مظلما، وهذا ما أكّده العلماء في نهاية العالم، حيث تضعف الطاقة الشمسية.
وصفة ذلك الدّخان العموم والشمول، كما قال تعالى:

يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يشمل الناس ويحيط بهم من كل جانب، فيقولون: هذا عذاب أليم جدا، أو يقول اللَّه لهم ذلك توبيخا وتقريعا.
وحينئذ يستغيث الناس بالله قائلين:
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي يقولون: يا ربّنا اكشف عنّا عذابك، إنّا مصدّقون بالله ورسوله، أو إن كشفت عنّا هذا العذاب أسلمنا وآمنا، والمراد بالعذاب في الماضي الجوع الذي كان بسببه رؤية ما يشبه الدّخان.
روي أن المشركين أتوا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالوا: «إن كشف اللَّه عنا هذا العذاب أسلمنا».
وأما في المستقبل فهو عذاب أشدّ يحدث قبيل الساعة، ويكون من أشراطها وعلاماتها.
وهذا كقوله عزّ وجلّ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام ٦/ ٢٧]، وقوله جلّ وعلا: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم ١٤/ ٤٤].
ثم نفى اللَّه صدقهم في الوعد بالإيمان قائلا:
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي من أين وكيف لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالوعد بالإيمان بعد كشف العذاب؟ وكان قد جاءهم رسول مبين أدلّة الإيمان، ظاهر الآيات والمعجزات، ثم أعرض هؤلاء الكفار عنه، وقالوا عنه: إنما يعلمه القرآن بشر، وقالوا أيضا: إنه مجنون لا عقل له، وهذا يدلّ على أنّ الآيات نزلت في قريش،

أي كيف يتذكر هؤلاء وأنّى لهم الذّكرى؟ وقد سبق ما حدث منهم من الإعراض عن رسول اللَّه وعن القرآن وهديه، وافتروا على الرّسول بأن معلمه غلام رومي وأنه مجنون.
وهذا كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟
[الفجر ٨٩/ ٢٣].
ثم أعلن اللَّه تعالى عودتهم صراحة إلى الكفر، فقال:
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا، إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا، وسنؤخّره قليلا بعد توافر أسبابه، وهذا كالحكم الصادر بالعقوبة مع وقف التّنفيذ، فإنكم راجعون إلى ما كنتم عليه من الشّرك والكفر والعناد، وقد رجعوا فعلا.
وهذا كقوله تعالى في قوم يونس: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس ١٠/ ٩٨].
وتأخير العذاب إلى يوم القيامة كما قال تعالى:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي إنكم مؤجلون إلى عذاب شديد هو عذاب النار في يوم القيامة، ذلك اليوم الذي يكون فيه البأس الأكبر والأخذ الأشد، وفيه ننتقم أشدّ الانتقام، أي نعاقب هؤلاء الكفار.
وقيل كما روي عن ابن مسعود: إنه يوم بدر، لما عادوا إلى التّكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم، انتقم اللَّه منهم بوقعة بدر، قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر.
والظاهر كما رجّح ابن جرير الطبري وابن كثير أن ذلك يوم القيامة، وبه قال الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- هدد اللَّه المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وطالب نبيّه بأن ينتظر وجود العذاب بهؤلاء الكفار، أما في الدنيا فيتعرّضون لظلمة في أبصارهم من شدة الجوع، لأن
النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما دعا عليهم بقوله: «اللهم اجعل سنيّهم كسنيّ يوسف»
ارتفع المطر وأصابت قريشا شدة المجاعة، حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل، لما به من الجوع يرى ما بينه وبين السماء كالدّخان، كما قال ابن عباس وغيره.
وأما في الآخرة فينتقم اللَّه منهم يوم البطشة الكبرى- يوم القيامة- ويدخلهم النار.
ثم إن من علامات القيامة ظهور دخان في العالم، أي ظلمة بسبب ضعف الطاقة الشمسية في ذلك الوقت، وذلك يوم عسير وشديد على الكافرين، وأما المؤمنون فينجيهم من بأس ذلك اليوم، ويحميهم من شدته.
روى أبو سعيد الخدري مرفوعا: «أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة، يأخذ المؤمن منه كالزّكمة (الزّكام) وينفخ الكافر حتى يخرج من كلّ مسمع منه».
وعن حذيفة أنّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أوّل الآيات: الدّخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر»
وأبين: اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها.
٢- شأن الكافر وطبيعته اللجوء إلى اللَّه وقت الشّدة والمحنة، ثم العودة إلى الكفر بعد الفرج وكشف الضّرّ. وهذا ما حدث لمشركي مكة، فقد روي: أن قريشا أتوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالوا: إن كشف اللَّه عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول.

٣- اللَّه سبحانه عليم بما يحدث من الكفار، ولكن اقتضت رحمته أن يشمل عباده جميعا باللطف المرة تلو المرة، لعلهم أن يصلحوا أحوالهم، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، لأنه يمهل ولا يهمل.
وهذا معروف عن قريش، فمن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والاعتبار عند حلول العذاب؟ وقد جاءهم رسول من أنفسهم يبين لهم الحق، ثم أعرضوا عنه، بل إنهم اتّهموه زورا وبهتانا بأنه يعلّمه بشر وهو غلام رومي لبعض ثقيف، أو تعلّمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف ١٨/ ٥].
٤- مع كلّ هذا ومع علم اللَّه الشامل بما سيكون، وعد أن يكشف عن قريش ذلك العذاب في زمان قليل، ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه، كما قال ابن مسعود، فلما كشف عنهم باستسقاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لهم، عادوا إلى تكذيبه.
ومن قال: إن الدّخان منتظر قرب القيامة قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية، من آيات قيام الساعة، ثم من أصرّ على كفره استمرّ عليه.
ومن قال: هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر.
٥- إن يوم القيامة يوم رهيب، فهو يوم البطشة الإلهية الكبرى، ويوم الانتقام من الظالمين والمشركين والكافرين، وذلك بعذاب جهنم.
والخلاصة: تضمّنت الآيات تحليلا دقيقا لطبائع الكفار، ونبّهت إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرّعون إلى اللَّه تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف، وأخبرت عن تهديدات متكررة، وتقريعات وتوبيخات متوالية بقصد الرّدع والزّجر وتدارك الأمر قبل فوات الأوان.