
ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج فيبرم وينفذ ذلك، لأن الكتابة لا تكون إلا ليلة البراءة كما تقدم، قال تعالى ما معناه نأمر بكل شيء «أَمْراً» نصب على الاختصاص وإن الأمر المحكم الذي أنزلناه حاصل «مِنْ عِنْدِنا» بمقتضى علمنا وتدبيرنا وحكمتنا «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» ٥ الرسل إلى الأمم السابقة لأجل إرشادهم وقد أرسلناك يا محمد إلى من على وجه الأرض وخاصة لأهل زمانك «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» إليهم ورأفة بهم ونعمة عليهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم إذا أجابوا دعوتك وآمنوا بك «الْعَلِيمُ» ٦ بأفعالهم كلها. ومن قال إن الضمير في أنزلناه لا يعود للكتاب وأراد بالكتاب اللوح المحفوظ المقدس أعاده إلى غير موجود لمعلوميته كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كما أشرنا إليه في الآية ٣٤ من الشورى المارة، قال تعالى «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «مُوقِنِينَ» ٧ به عن علم فهو رب هذين الهيكلين العظيمين ومن فيهما ومرسل الرسل رحمة ومنزل الكتب هدى، وهذا كما تقول إن هذا الإنعام الكثير هو انعام فلان الذي تسامع الناس بكرمه وداع صيته لدى الخاص والعام، أي بلغك حديثه أو حدثت عنه أو ذكرت لك قصته «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» عنى القطع والجزم هو الذي «يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهل تعلم أحدا يقدر على هذا غيره، كلا ثم كلا، هذا هو الإله العظيم القهار «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ٨ لا ربّ غيره، وإن هذه الأصنام ليست بآلهة لأحد وليست بقدرة على شيء من ذلك بل عاجزة عن كل شيء، قال تعالى مخبرا نبيه بعدم إيقانهم بذلك «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ» منه، ولذلك تراهم «يَلْعَبُونَ» ٩ فلم يتأثروا من هذه الآيات ولم يلقوا لها بالا ولم يوقروا مبلغها لهم بل يسخرون منه ويستهزئون به «فَارْتَقِبْ» يا سيد الرسل عذابهم «يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» ١٠ يراه كل أحد وذلك أن الهواء يتكدر في سني الجدب والقحط لما يخالطه من الغبار فيراه الرائي كأنه دخان حتى ان الجائع يصير على بصره مثل الغشاوة فيرى الفضاء ما بينه وبين السماء كأنه دخان
«يَغْشَى النَّاسَ» أجمع حتى يقولوا من شدة جزعهم منه «هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» ١١ لا يطيقه البشر، ولهذا سماه عذابا ووصفه بكونه مؤلما، لأنه ناشىء عن شدة الجوع.

مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبّع:
وليعلم أن هذا الدخان ليس بالدخان الذي هو آية من آيات الساعة، لأن ذلك لم يحضره حضرة الرسول، ولو كان المراد هو لما خاطبه به بقوله تعالى:
(فَارْتَقِبْ) وإنما هو ما ذكرنا والله أعلم، وذلك لمن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم لما رأى قومه لا يزالون يتمادون في الإنكار والكذب دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأجاب الله دعاءه فأخذتهم سنة قد حصت أي أهلكت كل شيء حتى أكلوا الجيف والجلود وقد أثر فيهم الجوع حتى صار أحدهم يرى الفضاء كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك أنهكهم الجوع، فادع الله لهم يرفع عنهم ما حل بهم وإلا هلكوا. فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (عائِدُونَ).
يؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله ابن مسعود وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند باب كنده يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول، الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية ٨٨ من سورة ص في ج ١، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى الناس إدبارا، قال اللهم سبعا كسبع يوسف. وفي رواية للبخاري قالوا «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» ١٢ فقيل له إن كشفنا عنهم القحط عادوا فدعا ربه فكشف عنهم وسقوا الغيث، وأطبقت السماء عليهم فشكوا كثرة المطر فلجأوا إليه صلّى الله عليه وسلم، فقال اللهم حوالينا ولا علينا فكشف عنهم.
ومع ذلك عادوا إلى إصرارهم وكفرهم فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى (فَارْتَقِبْ) إلى قوله (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ). هذا، وإطلاق الدخان على ما يراه الجائع

أو على الذي يرى عند تكدر الهواء لا يأباه وصفه بقوله (مُبِينٍ) لأنه مما يتخيل ويتوهم أنه دخان ظاهر، وقد يقره العقل. واعلم بأن إرادة الجدب من هذا الدخان والمجاعة مجاز من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، وهذا هو الصارف عن إرادة الظاهر، لأنه لو كان المراد به الدخان الذي هو من علامات الساعة لما صح قوله تعالى على لسانهم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ولم يصح أيضا قوله جل جلاله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية، إذ لا يكون شيء من ذلك يوم القيامة.
هذا، وما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال (خمس قد مضين أي من علامات الساعة اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان) فهو غير هذا الدخان المقصود في هذه الآية، وعلى فرض صحته فيها وهو بعيد فتكون الآية على ظاهرها وتلزم بأن نقول إن المخاطب بها غيره صلّى الله عليه وسلم ممن لم يخلق بعد أو نجبر أن نقول بوقوعها في زمانه صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع، إذ لم يثبت أن هذه العلامة وقعت بزمنه صلّى الله عليه وسلم. وعلى كل الحالين فلا يصح تأويلها به والله أعلم. هذا وقد وقع في دير الزور وأطرافها سنة ١٩٣١- ١٩٣٢ غبار في أوقات متفرقة بسبب انقطاع الأمطار ويبس الأرض وارتفع بالجو فأظلم الأفق وصار ذلك الفضاء العظيم ملآن بما يشبه الدخان حتى أنرلنا المصابيح لأنا صرنا بحالة لم ير أحدنا الآخر من كثافة ذلك الغبار ولا نستطيع الخروج إلى الساحات والطرق وضاقت النفوس وأولئك كثير من الأطفال والشيوخ أن يهلكوا لولا أن منّ الله تعالى علينا بكشفه بعد ساعات، بما يدل على أن هذا مثل ذلك، وأن الدخان الذي هو من علامات الساعة لم يقع بعد، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين (على وزن اقرن جزيرة اليمن) تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا.
قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية (المارة) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فعلى فرض صحة هذا الحديث فهو صريح بأنه يكون آخر الزمان وهو من علامات الساعة ولا ينطبق

بصورته المبينة في هذا الحديث على هذه الآية بمقتضى ما فسرت به وواقع الحال في ذلك الزمن، إذ لم يثبت وقوعه البتة على الصورة المبينة في هذا الحديث، وتلاوة الآية من قبل حضرة الرسول على فرض صحته يكون من قبيل التمثيل، لأن الآية صالحة لذلك مجازا لا حقيقة، وعليه فإن ما جرينا عليه من التفسير هو ما عليه جمهور جهابذة المفسرين ومروى عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل واختاره الزجاج والقراء. قال تعالى «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى» أي كيف يتذكرون ومن أين يتعظون بما أصابهم «وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ» ١٣ لكل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم فهو أعظم واولى من أن يتذكروا به ولم يتذكروا «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لإرشاده «وَقالُوا مُعَلَّمٌ» من قبل الغير يعنون عداما غلاما لبعض ثقيف أعجمي ولم يكتفوا بقولهم معلم بل قالوا «مَجْنُونٌ» ١٤ أيضا لأنه يغشى عليه كالمجنون، وذلك أنهم يرونه حين ينزل عليه الوحي كالمغمى عليه، قال تعالى «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ» القحط الذي حل بكم إجابة لدعوة نبيكم ومؤخرون العذاب الآخر «قَلِيلًا إِنَّكُمْ» يا أهل مكة «عائِدُونَ» ١٥ إلى الكفر والجحود لا محالة سواء أمهلناكم أم لا، ولهذا لم نرجئكم كثيرا، فانتظروا «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى» فيكم بالدنيا في بدر وغيرها وفي الأخرى أكبر وأشد لأن يوم بدر مهما كان عظيما لا يبلغ هذا المبلغ الموصوف بالآية ولا يحصل به الانتقام النام من الكفرة، ولكن يوم القيامة بعد الفصل بين الناس «إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» ١٦ منكم الانتقام القاسي وناهيك بالجبار إذا كان هو المنتقم كفانا الله شر انتقامه «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ» قبل قومك يا سيد الرسل «قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» ١٧ على ربه مثل ما أنت كريم عليه، ولما كان إرساله للقبط قوم فرعون ولبني إسرائيل قومه قال موسى لفرعون وملائه «أَنْ أَدُّوا» أعطوا وسلموا «إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» الذين استعبدتموهم وتخلوا عنهم «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من الله بذلك «أَمِينٌ» ١٨ على أداء الرسالة إليكم «وَأَنْ لا تَعْلُوا» تترفعوا وتتبختروا وتستكبروا «عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني إليكم، وإن شئتم بيّنة على صدقي «إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ
صفحة رقم 100