
- ٥ - وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا
- ٦ - وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً
ينهى سبحانه وتعالى عَنْ تَمْكِينِ السُّفَهَاءِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَامًا، أَيْ تَقُومُ بها

معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ههنا يُؤْخَذُ [الْحَجْرُ عَلَى السُّفَهَاءِ] وَهُمْ أَقْسَامٌ: فَتَارَةً يَكُونُ الْحَجْرُ لِلصِّغَرِ، فَإِنَّ الصَّغِيرَ مَسْلُوبُ الْعِبَارَةِ، وَتَارَةً يَكُونُ الْحَجْرُ لِلْجُنُونِ، وَتَارَةً لِسُوءِ التَّصَرُّفِ لنقص العقل أو الدين، وتارة للفَلس وَهُوَ مَا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِرَجُلٍ وَضَاقَ مَالُهُ عَنْ وَفَائِهَا، فَإِذَا سَأَلَ الْغُرَمَاءُ الحاكم الحجر عليه حجر عليه، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ قال: هم بَنُوكَ والنساء، وقال الضحاك: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ: هم اليتامى، وقال مجاهد وعكرمة: هم النساء، وقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيّمها» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابن مردويه مطولاً) وَقَوْلُهُ: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ قال ابن عباس لَا تَعْمَدْ إِلَى مَالِكَ وَمَا خَوَّلَكَ اللَّهُ وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنتك، ثُمَّ تُنْظُرَ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَكِنْ أَمْسِكْ مَالَكَ وَأَصْلِحْهُ، وَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ كِسْوَتِهِمْ وَمُؤْنَتِهِمْ وَرِزْقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جرير عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فلا يستجيب لَهُمْ، رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا، وَقَدْ قَالَ الله: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ يَعْنِي فِي البر والصلة، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة في الكساوى والأرزاق، بالكلام الطَّيِّبِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْحُلُمَ، قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ تَارَةً يَكُونُ بِالْحُلُمِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يُنْزِلُ بِهِ الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وعن علي: قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُتْمَ (١) بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صُمَات يومٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عن عائشة وغيرها مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يحلم - أي يستكمل خمس عشرة سنة - وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يفيق»، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحن عن ابن عُمَرَ قَالَ: عُرِضتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحد وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، فقال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ: إِنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وقال أبو عبيد في الغريب عَنْ عُمَرَ: أَنَّ غُلَامًا ابْتَهَرَ جَارِيَةً فِي شعره، فقال عمر: انْظُرُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ أَنْبَتَ فَدَرَأَ عَنْهُ الحد، قال أبو عبيدة: ابْتَهَرَهَا أَيْ قَذَفَهَا، وَالِابْتِهَارُ: أَنْ يَقُولَ فَعَلْتُ بِهَا وَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَهُوَ الإبتهار قَالَ الْكُمَيْتُ فِي شِعْرِهِ:
قَبِيحٌ بِمِثْلِي نَعْتُ الفتاة * إما ابتهاراً وإما ابتياراً
وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم كذا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِ واحد من الأئمة، وهكذا قال الفقهاء: إذا بَلَغَ الْغُلَامُ مُصْلِحًا لِدِينِهِ وَمَالِهِ انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، فَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ الَّذِي تَحْتَ يَدِ وليه، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾ يَنْهَى تَعَالَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ غير حاجة ضرورية ﴿إِسْرَافاً وَبِدَاراً﴾ أي مبادرة قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عنه ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشَّعْبِيُّ: هُوَ عَلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،

﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف﴾ نَزَلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي وَالِي الْيَتِيمِ ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بِقَدْرِ قِيَامِهِ عَلَيْهِ. قال الفقهاء: له أن يأكل من أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَوْ قَدَرَ حَاجَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَرُدُّ إِذَا أَيْسَرَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لَا، لِأَنَّهُ أَكَلَ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ وَكَانَ فَقِيرًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْآيَةَ أَبَاحَتِ الْأَكْلَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
روي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي يَتِيمًا عِنْدَهُ مَالٌ وَلَيْسَ لي مال، آكل من ماله؟ قال: «كل بالمعروف غير مسرف» (رواه ابن أبي حاتم وأبو داود والنسائي). وقال ابن جرير: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ فِي حِجْرِي أَيْتَامًا، وَإِنَّ لَهُمْ إِبِلًا وَلِي إبل، وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل مِنْ أَلْبَانِهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وتهنا جرباها وتلوط حوضها وتسعى عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، وَلَا نَاهِكٍ في الحلب (أخرجه ابن جرير ورواه مالك في الموطأ). (وَالثَّانِي): نَعَمْ، لِأَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ عَلَى الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَيَرُدُّ بَدَلَهُ كَأَكْلِ مَالِ الغير للمضطر عند الحاجة، وقد قال ابن أبي الدنيا: قال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي من هذا المال منزلة وَالِي الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفَتُ، وَإِنِ احْتَجْتُ استقرضت، فإذا أيسرت قضيت. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: لَا يَأْكُلْ مِنْهُ إِلَّا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ يَعْنِي مِنَ الْأَوْلِيَاءِ ﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً﴾ أَيْ مِنْهُمْ ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ بِالَّتِي هِيَ أحسن كما قال في الآية الأخرة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يَعْنِي بَعْدَ بُلُوغِهِمُ الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أَمْوَالَهُمْ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴿فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ وهذا أمر من اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَى الْأَيْتَامِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ جُحُودٌ وَإِنْكَارٌ لِمَا قَبَضَهُ وَتَسَلَّمَهُ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾ أَيْ وكفى بالله حَسِيباً وشاهداً وَرَقِيبًا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، فِي حَالِ نَظَرِهِمْ لِلْأَيْتَامِ وحال تسليمهم لأموالهم، هَلْ هِيَ كَامِلَةٌ مُوَفَّرَةٌ أَوْ مَنْقُوصَةٌ مَبْخُوسَةٌ؟ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي: لَا تَأَمرنَّ عَلَى اثنين، ولا تَلِينَ مال يتيم".